قد تتحول ليبيا إلى البلد الذي يعلن منه عن الانهيار التام للنظام العالمي الجديد الذي دخل غرفة الإنعاش منذ فترة، بعد أن فقد شروط وجوده التي انبنى عليها عند الحديث عن تشكله في بداية التسعينات من القرن الماضي كبديل للنظام الذي كان سائدا في مرحلة الحرب الباردة، وتم اعتباره عنوانا لانتصار إرادة الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وانطلاق مرحلة القطب الواحد، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ومن ورائه حلف وارسو، بما أعطى مجالا لاتساع رقعة نفوذ حلف شمال الأطلسي (الناتو). منذ إطلاقه، فشل النظام العالمي الجديد في قيادة البشرية إلى آفاق أفضل، فسياساته مثلت في أغلب الأحيان أسوأ درجات التخبط وغياب الجدوى في حل مجمل القضايا الدولية وبخاصة قضايا الشرق الأوسط، ولعل نماذج العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا واليمن، والتعامل مع الملف الإيراني، وتفاقم التعنت الإسرائيلي في ما يتعلق بقضية الشعب الفلسطيني، وانتشار الإرهاب بتدبير مسبق من قوى دولية وإقليمية، تدل على عجز الواقفين في صدارة هذا النظام على تحقيق الأمن والاستقرار ومنع التهديدات المباشرة للسلام العالمي وإرساء أمثلة أفضل للتنمية ولقيم الحوار والعدالة. ساهمت الطفرة التكنولوجية وخاصة في مجال الاتصال التي بدأت بالظهور بشكل واسع منذ أكثر من عقدين، في تهميش العقل وتغييب الحكمة، وأصبح للتطرف والإرهاب والتكفير أبواقه ولخطاب الكراهية والحقد منصاته، وللفتنة جيوشها الإلكترونية ودعاتها المتمردون على القانون برعاية دول مارقة ليس بمفهوم العداء للغرب هذا المرة، ولكن بمفهوم العداء لقوى الاعتدال في المنطقة، وأصبح الاختراق اليومي للمؤسسات الدولية بما في ذلك تلك التي تعتبر نفسها ضمير العالم أمرا عاديا، وبات مألوفا التلاعب بالمعلومة وبالتقارير الإعلامية والحقوقية وتوجيهها لخدمة من يدفع أكثر، أو من يملك سلطة الأيديولوجيات الفاسدة. يجري هذا في ظل منظومات حاكمة ينخرها الفساد بشكل غير مسبوق في دول من المفروض أنها متقدمة وديمقراطية وذات شفافية عالية في إدارة الشأن العام من قبل مؤسساتها المستقلة، لكنها في الواقع خاضعة لمصالح وحسابات من يجيّرونها لممارسة أبشع أنواع الفساد خارج حدود دولهم، من خلال عمليات النهب الممنهج التي وصلت إلى حدود السطو المسلح بالاشتراك مع الأطراف المحلية كما حدث في العراق في العام 2003 وليبيا في العام 2011. ولننظر مثلا إلى تركيا الدولة الحليفة للغرب وممثلة مصالح حلف الناتو التي تعاملت مع الإرهاب بشكل أكثر من ودي، وتاجرت في النفط العراقي والسوري مع تنظيم داعش حيث اشترته بأثمان بخسة ضمن منظومة فساد يديرها الرئيس التركي وأفراد أسرته، وفتحت حدودها لإرهابيي العالم أجمع، وتبنت منظومة الخراب في المنطقة وفق مصالحها ودون اعتبار للقانون الدولي، ولكن في ظل تنسيق مع دول كبرى إما مؤيدة للفوضى الخلاقة أو أن مؤسساتها منقسمة على ذاتها في تقييم الأوضاع. ففي فبراير الماضي عرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استغلالا مشتركا لنفط دير الزور السورية، باعتبار أن الحقول النفطية لا تزال تحت سيطرة ميليشيات مسلحة موالية لنظامه، وهو ما يعني العمل على فرض إرادته كقوة احتلال رغم أن القانون الدولي يمنع استغلال ثروة المناطق أو الدول المحتلة من قبل الجهات التي تحتلها. يمكن اعتبار النموذج التركي من أبرز النماذج في اختراق القانون الدولي والتلاعب بالشرعية، وفي الإيذان بنهاية النظام العالمي الحالي، وإرساء نظام جديد يتأسس على تقسيم العالم إلى مراكز نفوذ تدار بشكل عشوائي من قبل قوى إقليمية تستظل بغطاء دولي هو في الواقع أقرب إلى الوهم، ولكنه فاعل في تكريس ضبابية في المواقف عادة ما يستفيد منها الطرف المغامر باسم سياسة الأمر الواقع. منذ عقود، كانت إسرائيل تعتبر الدولة الوحيدة الخارجة عن القانون بإرادة من يزعمون الدفاع عن سيادته، لكن تركيا، وهي الحليفة لتل أبيب، تسير في ذات الاتجاه بسبب ترهل النظام العالمي، وانهيار الجدار الأخلاقي والقيمي على مستوى القوى الكبرى بما فيها الولايات المتحدة، ولعل التدخل في ليبيا خير دليل على ذلك، وهو تدخل ليس من أجل بسط الأمن والاستقرار في الدولة العربية الأفريقية، ولكن من أجل هدفين أساسيين: الأول فرض سلطة موالية لها عقائديا تتشكل بالأساس من قوى الإسلام السياسي المنبوذة اجتماعيا وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، والثاني وضع اليد على الثروات المهولة الظاهرة والخفية والمساومة بها وبالموقع الإستراتيجي المؤثر للبلاد. يعتبر الغزو التركي لليبيا بآلاف من المرتزقة من جنسيات مختلفة، والاعتماد على الإرهاب المحلي والمستورد، وتهريب السلاح إلى طرابلس ومصراتة في تجاوز لقرارات مجلس الأمن، وإعلان الحرب على قوى وطنية معترف بها دوليا ومنها الجيش الوطني الخاضع لشرعية مجلس النواب المنتخب والطرف التشريعي الوحيد المعتمد من قبل الأمم المتحدة والهيئات الإقليمية والدولية والشريك الأصلي في اتفاق الصخيرات، يعتبر كل ذلك عدوانا سافرا، ولكنه يبدو مقبولا في شريعة النظام العالمي الحالي، خصوصا عندما يَعدُ أردوغان شركاءه الغربيين بأنه سيضع يده على قاعدة مهمة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في غرب ليبيا، وعندما يوهم بعض القوى النافذة بأنه لا يرى مانعا من أن يتقاسم معها الكعكة الليبية، ومن هنا تصمت تلك الدول والقوى على الغزو، وكأنها تتعامل معه على أنه أمر طبيعي لا يستحق منها الرفض أو الاستنكار. لكن بالمقابل، ترتفع الأصوات المحذرة من التدخل الروسي في ليبيا، والسبب واضح: دعوا تركيا تتدخل فهي حليفتنا وواجهوا روسيا لأنها خارجة عن تحالفنا، والنتيجة ستكون مساندة الدول والقوى المعتدلة في المنطقة لأي موقف روسي مناهض لأطماع أردوغان التي تستهدف الجميع بسلاح المغامرة ومخزون التطرف. فالمعركة الحقيقية اليوم هي مع الإرهاب الذي وجد ضالته في تطلعات أردوغان لاستعادة أوهام الخلافة على حساب الدولة الوطنية التي تدافع عنها روسيا أكثر من الغرب المتورط بالأدلة القاطعة والموثقة في كل ما وصلت إليه منطقتنا حاليا في ظل النظام العالمي الحالي الذي بلغ مرحلة الترهل، وستحكم ليبيا بنهايته.
مشاركة :