قطر: كشف حساب وندم | علي الصراف | صحيفة العرب

  • 5/22/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

إذا كنتَ قادرا على فعل الخير وتمتنع عنه، فهذه مشكلة. وهي مشكلة أكبر لو أنك فعلتَ عكسه. وقطر قادرة على فعل الخير. قادرة على أن تنقذ، بقدراتها الاقتصادية، ملايين البشر من آفة الفقر والتخلف والمرض؛ قادرة على أن تكون منارة تعاون وتضامن وأمل؛ وقادرة على أن تعمر وتبني للمستقبل، بالتقدم العلمي والإنتاج المعرفي، لنفسها وللآخرين. ولكنها تفعل العكس، وتوغلُ فيه أيضا، إلى درجة أن إجمالي أعمال التخريب والحروب الأهلية والمنظمات التي تمولها قطر، تكاد تبلغ في أثرها، من حيث الأضرار وأعداد الضحايا، تفجير قنبلة نووية أو أكثر. والوقت سيأتي لكي تقدم قطر كشف حساب عما فعلت. والضرر لا يتوقف على دول عربية عدة، ولكنها تشمل إلحاق الضرر بنفسها أيضا. من ناحية، هي تمول تدخلات تركيا في ليبيا، ومن ناحية أخرى فإنها تدعم اقتصادها المتهالك بمليارات الدولارات، فقط من أجل أن تنقذ سلطة الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه الإخواني. الحرب في ليبيا وحدها كلفت الليبيين خسائر وأضرارا، حتى لكأنك ألقيتَ قنبلة نووية في قلب هذا البلد، وذلك بمجرد دعم تنظيمات إرهابية أو ذات ارتباطات إرهابية. ولن يصعب على أي أحد أن يرى كيف أن الاستثمار في الشقاق والتدمير، ما كان بوسعه إلا أن يكون بمثابة جريمة كبرى، بمستوى جرائم الحرب العالمية الثانية. ولو أن المرء نظر إلى دعم التنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا ولبنان، ثم نظر إلى التكاليف التي طالت ملايين الضحايا، لأدرك حجمها بالفعل. في كتابه الشهير “استذكار: مأساة ودروس فيتنام” كتب روبرت ماكنامارا عن خبرته كوزير للدفاع، ليضع فيه 11 درسا للقادة الذين يجدون أنفسهم في خضم حرب دمار شامل. الدرس الأول، كان يقول إنه يمكن لكل قائد عسكري أن يرتكب أخطاء، قد تؤدي إلى مقتل عدد من الأشخاص، لنقل ألف، خمسة آلاف أو حتى مئة ألف، من دون ضرورة أحيانا، ولكنه لا يقوم بتدمير أمم. وكان ماكنامارا يشير بوضوح إلى قنبلتي هيروشيما وناكازاكي الذريتين، اللتين كان الهدف منهما تدمير الأمة اليابانية، وكذلك أسلحة الدمار الشامل الأخرى التي استخدمت ضد فيتنام. سلسلة الحروب والأزمات التي نجمت عن دعم تنظيم الإخوان وفروعه وأشباهه من جماعات الإسلام السياسي، تقول ببساطة إن المشروع هو بالأحرى مشروع دمار شامل يناهز تفجير عدة قنابل نووية داخل المجتمعات العربية. والهدف هو تدمير أمة بكاملها. وهذه جريمة، من أعنف ما عرفته المنطقة عبر تاريخها كله. صعود تيارات الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، أثمر ماذا؟ انظر إلى العراق، وستعرف كم هم الملايين الذين دفعوا الثمن. ثم انظر إلى سوريا ولبنان واليمن، بل أبعد من ذلك، انظر إلى تونس والجزائر ومصر، وسترى أن ثمار الفشل قادت شعوبا بأسرها إلى الوقوف على حافة الهاوية، إن لم تقع فيها أصلا. وما يزال كيان اجتماعي رصين مثل تونس يدفع ثمن مرض اسمه “حركة النهضة”، أثبت أنه أكثر بلاء من الناحيتين الإدارية والاقتصادية، من وباء كورونا. فما بالك بالحال الذي تركه الإخوان في مصر؟ مصر، بالنسبة إلينا، مثل الصين بالنسبة إلى العالم. كيان اجتماعي وسياسي لا يمكنك أن تتعامل معه إلا بالخير؛ إلا بما لا جدال فيه؛ إلا بأن تنأى بنفسك عن مشكلاته الداخلية. إذا لم تكن قادرا على أن تقدم له مستشفى ومدرسة ومعملا، فمن الخير أن تتركه وشأنه، ولا تقول في خياراته الخاصة أي شيء. فكيف بمن حاول أن يزرع التناحرات فيه؟ كيف بمن شاء أن يزرع بذرة انقسامات دينية، وهو بلد لا يمكنك أن تعرف ما الفرق الاجتماعي بين مسلميه ومسيحييه؟ المصريون أكثر من مئة مليون نسمة. وأي مشروع أيديولوجي انقلابي كمشروع الإخوان، يتعين أن يكون مستعدا لمئة مليون خيمة لاجئين. وهذا كثير، ليس على مصر وحدها، وإنما على المنطقة بأسرها. مصر المنارة التي قدمت للأدب طه حسين ونجيب محفوظ وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي والمئات من أمثالهم، والتي قدمت للموسيقى سيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم، بمقدار ما قدمت للفكر والفن والعلم والدين، كادت تسقط في هوة سحيقة للفشل، بسبب مشروع أعمى البصر والبصيرة، كان يريد أن يدمر الكيان نفسه لحساب تطلع أيديولوجي عابر للحدود. هذا المشروع دعمته قطر، وما تزال تتحسر عليه. وهي تقيم لنفسها مآتم النعي عليه كل يوم. مشروع تفجير يعادل قنبلة نووية في عدد من الدول العربية الأخرى، ليس سرا على أي حال. إنه مشروع مكشوف ومعلن بالصوت والصورة. وما من أحد لم يره أو لم يسمع كيف أنه كان يعمل على تمزيق كيانات ومجتمعات، وتبديد هويات راسخة ومستقرة. لخدمة من كان ذلك المشروع؟ ومن أجل ماذا ظل هذا المشروع مستمرا؟ لقد اختارت قطر، تحت ذريعة السيادة، أن تفرض نفسها كأداة لـ”النق” وليس للنقد. والفرق بين النق، الذي يُمارس بهزال وابتذال شديدين، وبين النقد كبير. ومع ذلك، فإن الجميع يعرف ما مدى الضرر الذي يثيره هذا المنهج، ليس بسبب الخوف منه، وإنما بسبب التوظيفات الخبيثة التي يوظفها المغرضون، وهم كثر. ليس من دواعي “الحرية” ولا “التعبير عن الرأي”، أن تحوّل أبواقك إلى سوط تجلد به ظهور الناس. الحرية شيء، وجلد الآخرين شيء آخر. الأول عمل ذو غايات بناءة ونبيلة، أما الثاني فمجرد عمل من أعمال السادية. إنه مرض نفسي حقيقي، ويصاب المرء بالدهشة كيف أن الإعلام القطري يمارسه كما لو أن برامجه تُنفذ في مستشفى مجانين. هستيريا تتراكم فوق هستيريا، ولا تعلم متى يهدأ هؤلاء الناس. المشاريع الأيديولوجية، ليست من شغل الدول، على أي حال. وهذا العصر لم يعد عصر أيديولوجيات أصلا. ولا حاجة، حيال شعوب عريقة تملك من الخبرات ما تملك، لأن تتحول إلى “ناصح” لها، أو تتعالى عليها. هذا عيب. وتسعة أعشار ما تفعله قطر حيال دول المنطقة، مجرد عيب (بالمدلول العربي للكلمة). لا شيء يمنع من أن تنقد، ولكن مُدّ يد العون، في ما لا جدال فيه أولا. غُصْ بالمشاكل الحيوية وساعد في حلها أولا، لكي يفهم الجميع أن ما تقوله مفيد، ولا يقصد إلا الخير. وما لم ترغب في فعل الخير، فلا تفعل عكسه على الأقل. الغاية الوحيدة من دعم جماعات الإسلام السياسي، كانت وما تزال هي نفسها: تمزيق هذه الأمة، بكل دولها وشعوبها، حتى لكأنك تلقي فيها قنبلة نووية، من دون أن تقصد تحقيق أي مكسب عسكري أو اقتصادي أو إستراتيجي، سوى التدمير لأجل التدمير فحسب. وهذه مشكلة. إنها في الواقع مشكلة قطر مع نفسها، بمقدار ما هي مشكلة الملايين ممن يدفعون ثمن الأذى، ويتعرضون لإشعاعات قنبلة التفتيت والتمزيق النووية التي أطلقتها قطر بدعم وتمويل جماعات الإرهاب والتطرف وأحزاب التخريب الديني. الناقد الحقيقي هو من يجرؤ على أن ينقد نفسه أيضا. والذي يريد أن يتبصر للآخرين، يجدر أن يتبصر في نفسه أولا. فإذا وجد أنه يسلك طريقا غير الطريق القويم، فأن يأتي الاستدراكُ متأخرا خير من ألا يأتي أبدا. هذا ما فعله ماكنامارا على الأقل. كان واحدا من ألمع نجوم الإدارة الأميركية خلال الحرب ضد فيتنام. إلا أنه لم يتردد في النهاية في أن يقدم كشف حساب وندم.

مشاركة :