سليمان الفليح يصوغ قانون الصحراء - د.عبد الرحمن الحبيب

  • 5/25/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

«ترك والدنا الشاعر والأديب سليمان الفليح جملة جهود بحثية منوعة تمحورت حول البداوة والشعر والتراث الشفاهي أنجزها بجهد شخصي بحت امتد لفترات زمنية متباعدة بفعل الظروف وانشغالات الحياة وكان هذا الجهد البحثي الذي عنونه بـ»العرف.. قانون الصحراء». كانت تلك الفقرة الأولى من مقدمة النشر لكتاب إلكتروني صدر مؤخراً للكاتب المعروف بعموده الصحفي المميز «هذرولوجيا» الذي بدأ بنشره بصحيفة السياسة الكويتية قبل انتقاله إلى صحيفة الرياض حتى استقر به المقام بصحيفة الجزيرة إلى أن انتقل إلى رحمته تعالى عام 2013م. الكتاب، حسبما جاء بتلك المقدمة، نُشر نصه الأساسي بصحيفة السياسة عام 1977م، ثم أضيف وعُدّل عليه حتى عام 1984م، وتم الاحتفاظ به دون تغيير. يتناول الكتاب الأطروحات الاجتماعية والأنثروبولوجية لمواضيع: البداوة، القبيلة وتركيبتها الاجتماعية والسياسية، العُرف القبلي ..إلخ. بداية، يطرح المؤلف مفهوم البداوة لدى المختصين، والتشابه والتمايز بين البدوي والبدائي.. ثم الفروقات بين البداوة والحضارة.. مركزاً على ما قاله علي الوردي، فالبداوة «ثقافة اجتماعية قائمة بذاتها لها طابعها العام ومركباتها الخاصة وهي تتميز بخصائص ثلاث هي الغزو والعصبية القبلية وتقدير المروءة ويقابلها في الحضارة المهنة والسلطة الحكومية وتقدير المال.» إضافة إلى طريقه العيش التي تتصف بالرعي والترحّل. ينتقل بعدها إلى نشأة البداوة قبل نحو أربعة آلاف سنة عندما ضغط العموريون على البابليين حين قام الرعاة بالخروج على القبائل الزراعية وشن الغارات الراجلة عليها لنهب محاصيلها والتوغل بالصحراء إلى أن اكتشفوا الجمل حوالي عام 1100ق.م. أما الأعراب فقد ذكرهم التاريخ منذ أن حارب جندب العربي (عريبي) ملك آشور شلمنصر الثالث (ت 824 ق م) بجيش حشد فيه ألف جمل. وأرض عريبي هي الطرف الشمالي الأقصى من الجزيرة العربية بين الشام وبلاد ما بين النهرين وتضم تدمر ووادي السرحان، والعرب هم سكانها. وقد ارتبط تاريخ البداوة بالجزيرة العربية بكلمة أعراب، وصارت تطلق في اللغات السامية والعصور الجاهلية على سكان المناطق البدوية والواحات شمالي الربع الخالي خاصة على البدو الذين يستخدمون الإبل؛ ومنها انتقل مسمى «شبه الجزيرة العربية». ثم يتناول التركيبة الاجتماعية للقبيلة التي تنحدر تدريجياً لتصل إلى الفرد بدءاً من القبيلة، العمارة، البطن، الفخذ، العشيرة، العائلة.. وقد تندمج قبائل متحالفة لتشكل قبيلة اتحادية تقف إزاء القبائل الأخرى في الحروب والغزوات. المجتمع القبلي ليس فئة واحدة، بل ينقسم إلى طبقات فهناك الأحرار، الأرقاء، المنبوذون، النازلون (اللاجئون).. أما التركيبة السياسية، فيذكر الكتاب أن القبائل تُدار بواسطة الشيوخ الذين يعاونهم مجلس استشاري يتكون من عقلاء القبيلة. حُكم الشيخ وراثي أباً عن جد، وصلت إليه عن طريق شجاعة أو قوة أو ذكاء أو كرم أحد أجداده. المجلس الاستشاري بمثابة هيئة عليا للقبيلة يليهم في التركيبة السياسية شيوخ البطون والعشائر الذين ينفذون سياسة الشيخ على عشائرهم وهم بمثابة حُكام إداريين. يليهم الفرسان الذين لهم مجالس تضم وجوه القبيلة يتداولون فيها أمور عشائرهم، ولها تبجيل لدى الجميع. العُرف القبلي «هو بمثابة مجموعة من القوانين والأعراف المتعارف عليها والتي تنظّم حياتها وسلوكها الاجتماعي وتعمل به كنظام مقدس مصان يحفظه الخلف عن السلف ويحرصون على فهمه والتمسك به وتعليمه إلى أولادهم وذلك لأنه يشبه إلى حد ما قانوناً قضائياً ثابتاً.. وهو نظام غير مدوّن أو مكتوب إلا أنه جاء بناءً على حوادث مشابهة يقيس بها العوارف (القضاة) حل القضايا التي يتولون الفصل فيها.» بعدها يتناول الكتاب جوانب أساسية من تلك الأعراف كالقضاء والزواج. الأجزاء الأخيرة تضمنت ثلاثة مواضيع.. فتحت عنوان «البدو المستشرقين» عُرضت مقتطفات لبعض ما طُرح حول البدو منذ ابن خلدون حتى منتصف القرن العشرين؛ ينتقل بعدها إلى البدو في وقتنا المعاصر، ليختم بموضوع نشوء وصيرورة البداوة تحت عنوان « المبرر الأيديولوجي للوحدة العشائرية». يمتد الكتاب إلى ما يربو على تسعين صفحة، ويتميز بثراء المعلومات وجودة التوثيق ومنهجيتها الموضوعية، لكن به نواقص شكلاً ومضموناً. ثمة أخطاء إملائية ولغوية، وحاجة بعض الجمل لإعادة صياغة أو إكمال؛ ولا غضاضة في ذلك، لأنه مسودة غير نهائية تحتاج لمزيد من التنقيح ربما نراها بالنسخ القادمة. رغم أن المؤلف مبدع ومعروف بأطروحاته الرصينة إزاء آراء المستشرقين والعرب، إلا أنه في الكتاب اقتصر على العرض مع ندرة أو افتقاد للمناقشة والتحليل في مواضع تتطلب ذلك؛ وربما مسوغه المنهجي ما ذكره: «ونحن إذ ندون هنا بعضاً من تلك الآراء... تاركين لقارئنا اليوم -وبأمانة حرفية- أن يستشف منها ما قصد به أولئك الكتَّاب دونما أي مناقشه أو تصويب أو موافقة من جانبنا»؛ رغم أن المناقشة والتحليل لا تستلزم طرح وجهة النظر بالاعتراض أو الموافقة قدر ما تتيح للقارئ رؤية أوضح لموضوع غامض.. بالمحصلة، الكتاب هدفه -حسب المقدمة- بناء وإحياء النقاش حول أفكار وتجارب وبحوث المستشرقين الذين جابوا الجزيرة العربية والهلال الخصيب خلال القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين؛ ومحاولة لحفظ المنظومة القيمية التي سادت لقرون بين أبناء الصحراء ونظمت علاقاتهم وسلوكهم قبل أن يطويها النسيان.

مشاركة :