الفكر العربي الحديث وإشكالية الأصالة والمعاصرة

  • 5/26/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تعتبر الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الهندية شريكين فاعلين في بناء الحضارة الغربية هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإذا ما نظرنا إلى وعي المثقف الأوروبي بتراثه نرى أن المثقف الأوروبي متصل بحاضره وبمشروع مستقبله، لا يشعر أن حاضره منفصل عن ماضيه بخلاف المثقف العربي الذي يستشعر الانفصال عن ماضيه.. كثيرًا ما تطرح مسألة الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث وتناقش من جوانب مختلفة، فمنهم من يتناولها من ناحية فلسفية، ومنهم من يتطرق إليها من زاوية فكرية، ومنهم من يسلك طريق الاجتماعيين أو النظريين لتحليلها وتفسيرها. ففي ندوة التراث وتحديات العصر "الأصالة والمعاصرة" والتي عقدت في بيروت في الثمانينات الميلادية كان النقاش حول إشكالية الأصالة والمعاصرة، وكان من بين المشاركين د. محمد عابد الجابري الذي تقدم بورقة علمية حول إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث، والتي أحالها في العام 1998م إلى كتاب: "إشكالية الفكر العربي المعاصر". وقد ربط د. الجابري مسألة الأصالة والمعاصرة بالأنا المتمثلة في النموذج العربي الإسلامي والآخر المتمثلة في النموذج الأوروبي الغربي، وقد وضع ثلاثة خيارات في مواقف الآخرين من هذين النموذجين: خيار يتبنى النموذج الغربي بوصفه نموذجًا للعصر فرض نفسه تاريخيًا كصيغة للحاضر والمستقبل. وخيار يستعيد النموذج العربي الإسلامي الذي يحاكي النموذج القديم. وخيار يتبنى الانتقائية بالأخذ بأحسن ما في النموذجين معًا والتوفيق بينهما في صيغة واحدة تجمع ما بين الأصالة والمعاصرة. ولكن من الناحية المنهجية فإن القطع الميكانيكي ما بين النموذجين ليس وارداً اليوم بعد أن فرض النموذج الغربي نفسه على العالم بوسائله كنموذج جديد للعالم كله، وعمم نموذجه الحضاري على العالم والمتمثل في الهياكل الأساسية للحياة الحديثة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن النموذج العربي الإسلامي يمثل بالنسبة لنا هوية وعقيدة وتراثًا وتاريخًا وحضارة وأصالة. ولكن المعضلة التي نواجهها ليست في الاختيار والتوفيق ما بين النموذجين ولكن المسألة تعود إلى حالة ردود الأفعال التي عرفتها الحضارات عندما تأخذ حضارة من أخرى. ولذلك فإن علينا أن ننظر إلى أن الحضارات تراث للبشرية باختلاف أجناسها ومعتقداتها، وقد حدث خلال دورات الحضارات المختلفة أن تأخذ حضارة عن أخرى ثم يأتي طور تكون فيه الآخذة معطية. فالحضارة العربية الإسلامية والحضارة الهندية أسستا هياكل الحضارة الغربية، فكثير من المستشرقين يعتبرون الحضارة العربية الإسلامية حلقة وصل ما بين اليونان وأوروبا، فالواقع التاريخي يثبت أن الحضارة العربية الإسلامية لم تكن مجرد حلقة وصل بين الثقافة اليونانية والثقافة الأوروبية الحديثة، فقد كانت الثقافة الأوروبية الحديثة نتاجاً للثقافة العربية الإسلامية في العلوم والفلسفة، ولذلك فإن حضور الثقافة العربية الإسلامية في التاريخ الثقافي الأوروبي حضور المؤسس وليس حضور الوسيط المؤقت، ولم يقتصر هذا على الحضارة العربية الإسلامية، فلقد مر معي في دراسات سابقة عن دور الحضارة الهندية في بناء مفاصل التراث اليوناني. ولذلك فإن من الخطأ المنهجي دراسة الثقافة الإغريقية - الرومانية بمعزل عن الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الهندية، فقد كان هنالك تواصل علمي ومعرفي بين الثقافتين والثقافة الإغريقية، فعندما نتتبع تاريخ العلاقات اليونانية والهندية نجد أن الجمعية الهندية للدراسات اليونانية والرومانية وثقت علاقة الإغريق الأوائل بالحضارة الهندية في القرن السادس حتى القرن الرابع قبل الميلاد. وقد تطرق المؤرخ البيروني في كتابه "في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" والذي نشر في حيدر أباد العام 1958م إلى التلاقح العلمي والفلسفي الذي حدث ما بين الهنود والإغريق وما تطرق إليه ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة الجزء الثاني من المجلد الأول "الهند وجيرانها" من اتصال علمي وثقافي وأدبي واسع بين الهند والإغريق، ونقل كثير من فلسفة وآداب الهنود إلى اليونان. ولذلك تعتبر الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الهندية شريكين فاعلين في بناء الحضارة الغربية هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإذا ما نظرنا إلى وعي المثقف الأوروبي بتراثه نرى أن المثقف الأوروبي متصل بحاضره وبمشروع مستقبله، لا يشعر أن حاضره منفصل عن ماضيه بخلاف المثقف العربي الذي يستشعر الانفصال عن ماضيه. وهذا على المستوى الشخصي جزء من كراهية النفس. وأعتقد أن الحل يكمن في إعادة إنتاج وكتابة التاريخ العربي الإسلامي من جديد على أن تبدأ نقطة الانطلاقة من عصر التدوين، وهي الفترة التي دون فيها التاريخ العربي الإسلامي في العصر العباسي الأول وإعادة إنتاجه عربيًا بقراءة جديدة والبناء عليه والانطلاق منه. وهو نفس ما فعلته اليوم الصين حين أعادت إنتاج تاريخها وتراثها من جديد، وغيرت صورتها في العالم. ومن ثم نختار من جميع النتاج العقلي في الغرب كما فعلت اليابان. ولكن مشروعًا كهذا من حيث الحجم والمضامين والمنهج يتطلب مشاركة مئات المتخصصين من مختلف المعارف والعلوم.

مشاركة :