التوتّر الإشكالي في الفكر العربي المعاصر ودلالاته الأيديولوجية

  • 10/13/2017
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

منذ ارتطامه بالحداثة الأوروبية في القرن التاسع عشر، لا يزال الفكر العربي يتسم بالتوتر الإشكالي في تعامله مع قيم هذه الحداثة ومبادئها. فلا مفهوم الدولة الديموقراطية الحديثة بات من المسلّمات، ولا مسألة الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية أمكن الخروج منها بموقف توفيقي، ولا أسس الوحدة القومية العربية تم الاتفاق عليها، ولا العلاقة مع الغرب وُضعت في إطارها التاريخي الصحيح. وعليه، فإن الدولة والديموقراطية والقومية والتراث والغرب والعلمانية والحداثة، كلها إشكاليات ما برحت تتفاعل سجالياً في الفكر العربي، بل إنها في المرحلة الراهنة بدأت تتجه نحو المزيد من التعقيد والعنف والقطيعة، بعد الذي جرى ويجري في العالم العربي من سجال خرج من القاعات إلى الساحات، ومن صراع الأفكار والعقائد إلى صراع البنادق والسكاكين، فلم يكن من دون دلالة تصدّر الدوريات والصحف العربية منذ ثمانينات القرن الماضي، أزواج مفهومية مثل الأصالة والمعاصرة، الشورى والديموقراطية، والدين والعلمنة، والعقل والنقل، والعرب والغرب، بما يؤكد تجذّر الطرح الإشكالي واحتدامه في الفكر العربي والمعاصر. في هذا الإطار، لا تزال المسألة القومية تطرح إشكالياً، فهل تتحدد القومية العربية بالدين، أم أن الدين مقوم من مقوماتها؟ هل الإسلام قبل العروبة أم العروبة قبل الإسلام؟ هل الانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى الإسلام، أم أن ثمة تباعداً أو تناقضاً بين الانتمائين؟ تساؤلات إشكالية شغلت الفكر القومي في العقود الأخيرة. وبين قول زين نور الدين زين «العرب يشعرون بأنهم عرب لأنهم يتكلمون العربية ويؤمنون بالإسلام ديناً» وقول محمد عابد الجابري «ثنائية العروبة والإسلام قائمة على اللبس، لأن الانتماء إلى قومية شيء والانتماء إلى دين شيء آخر». بين هذين القولين يستمر الإشكال المفهومي بين العروبة والإسلام، كما يستمر إشكال الوحدة القومية العربية. فهل هي قائمة على اللغة والثقافة والتاريخ، أم على الدين أم على الإرادة السياسية أم على الاقتصاد والمصلحة؟ وأي من هذه العوامل له الأولوية في توحيد العرب وتقدمهم المجتمعي؟ وهل ثمة ترابط بين الوحدة العربية والاشتراكية، أو بينها وبين الديموقراطية أو بينها وبين الاقتصاد أو بينها وبين العلمانية؟ الأمر الذي يحيل هو الآخر إلى إشكالية العلمانية. فهل العلمانية مرادفة للكفر والإلحاد، إذ هي تقدّم التشريع المدني على الشريعة وتتطاول على الحاكمية الإلهية، وأبعد من ذلك إنها «مستوردة من خارج أرضنا، ولها تاريخ غير تاريخنا، وقوانين غير شريعتنا، وأوضاع غير أوضاعنا»، على حد تعبير القرضاوي، أم أن العلمانية خلاف ذلك تحترم الدين ولا تروم سوى فصله عن السياسة وتنزيهه عن الأغراض الدنيوية؟ وما هو موقع الشورى إذاً، إزاء الديموقراطية التي جاء طرحها في فكرنا العربي، مصحوباً بتوتر إشكالي عنيف لا يزال محتدماً إلى الآن، إذ لا تزال دولة العقد الاجتماعي مرفوضة في عرف الأصوليين، لما بينها وبين الشورى من تمييز ماهويّ حدّي تصبح معه الديموقراطية «شريعة طبيعية» والشورى «شريعة إلهية». وتتخذ مسألة الآخر (الغرب) أبعاداً إشكالية خاصة في الفكر العربي المعاصر. بين طرح يرى في الغرب تحدياً حضارياً يُقتدَى بإنجازاته في العلم والتكنولوجيا والسياسة ويُتخذ دليلاً لنا في الإصلاح والتقدم، وآخر يرى فيه هيمنة واستعلاء، بل «جاهلية حديثة»، وفي الوافد الذي أخذناه عنه «جاهلية جديدة معاصرة». ومن المقولات الإشكالية في فكرنا المعاصر، مقولة خصوصية الثقافة العربية التي تزعم أن النهضة الحضارية للأمة العربية لا يمكن أن تتم انطلاقاً من الحداثة الغربية، بل من الذاتية التاريخية للأمة العربية. ما يتناقض مع قيم الحداثة والميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ولا يدع مجالاً للتجديد إلا من داخل التراث «باستدعائه واسترجاعه استرجاعاً معاصراً لنا»، على حد تعبير الجابري، ما يجعل من الطريقة الرشدية الأنسب والأقوم في التعامل مع الحداثة، في حين أن محمد أركون ذهب على الضد من هذا الطرح، إلى أن قيم الحداثة الغربية هي من صنع أوروبا، وما ادعاء امتلاك هذه القيم قبل حداثة الغرب سوى مغالطة تاريخية حقيقية. أساس كل هذا التوتر الإشكالي ودلالاته الأيديولوجية أن ثقافتنا ذاتها هي ثقافة إشكالية تترجح بين الإبداع والاتباع، مفهومنا للثقافة متناقض في العمق. فهل الثقافة الحقيقية هي رفض الماضي جذرياً أم إعادة إنتاجه؟ هل هي تكريس المفاهيم والقناعات السائدة أم هي تقويضها باستمرار لإقامة مبادئ ومفاهيم متساوقة مع العصر؟ هل المثقف هو المدافع عن الأعراف والمؤدلج للمعتقدات والأفكار السائدة أم هو الثائر على هذه الأعراف المشغوف أبداً بهاجس التقدم والتحول؟ تساؤلات إشكالية ما هي في الحقيقة إلا مظاهر مأسوية لحداثة عربية عاثرة، حداثة قيد الدرس لأمة لم تبلغ سن الرشد الحداثي، ولم تستطع بعد أن تملك زمام حاضرها وغدها. إن الإنسان العربي ما برح رهين تاريخه، ولم يتسنّ له بعد إنجاز مشروع حداثته، لينظر إلى التراث أو الآخر، لا كمحدّدات لـ «أناه» بتعبير الجابري، بل من موقع الفاعل والمشارك في إنتاج الحداثة وإبداع مبادئها وقيمها ومفاهيمها، والمواكب لثورتها المعرفية. أما سوى ذلك من محاولات التوفيق والتلفيق والمواءمة والتبرير، إن في صيغتها السلفية أم في صيغتها الليبرالية، فليس إلا استمراراً للتوتر الإشكالي إياه، وتأبيداً للدوران في حلقته المفرغة.     * كاتب لبناني

مشاركة :