منذ تسعة وثلاثين عاماً، وفي يوم غد الخامس والعشرين من مايو 1981، وفي العاصمة الإماراتية أبوظبي، انعقدت إرادة قادة ست دول مطلة على شاطئ الخليج العربي (السعودية والكويت والإمارات وقطر وعمان والبحرين)؛ لما يجمعها من روابط وثيقة مبنية على تعاليم الدين القويم وشريعته السمحة، وإيماناً منهم بمصيرهم المشترك وما يجمع شعوبهم من روابط الأخوة والدم وما يميزهم من تجانس جغرافي وتاريخي، لينشئوا كياناً يوحد لهم المصير السياسي ويحقق الأمن والتكامل الاقتصادي لدولهم، باسم مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وقد لا يتسع المجال لذكر الإنجازات التي حققها القادة في مجلس التعاون الخليجي على مدى 39 عاماً، وكانت لها انعكاسات عدة على حياة المواطن الخليجي، سواء ثقافياً أو بما يحقق التكامل الاقتصادي، بدءاً من الاتفاقية الاقتصادية الموحدة 1981، مروراً بمثيلتها عام 2001، والاتحاد الجمركي والسوق المشتركة والاتحاد النقدي. أمّا الأهم، فهو ما حققته اللحمة الخليجية من تعاون أمني وعسكري بإنشاء قوة درع الجزيرة عام 1982، وإقرار اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك عام 2000، وتعزيز قوة الدرع القتالية عام 2005، بما حافظ على أمن الكيان الخليجي منذ الحرب العراقية - الإيرانية، وتجسدت فعاليته في حرب تحرير الكويت 1991، التي كانت مثالاً رائعاً لوحدة المصير، كأروع كلمة مسجلة ما زالت خالدة في ذكرياتنا للراحل الملك فهد «إذا راحت كرامة الكويت راحت كرامة السعودية»، فقدمت الدول الشقيقة تضحيات بطولية ترجمت هذه الكلمة وهذا المصير، ثم تكررت الوحدة العسكرية في عام 2003، عند سقوط النظام العراقي، وكذلك تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بإرسال درع الجزيرة إلى البحرين لوقف الاضطرابات المدعومة من الخارج عام 2011، ثم جاءت في 2015 عاصفة الحزم وعملية إعادة الأمل في الوقوف مع السعودية في مواجهة التدخل الإيراني والحوثيين في اليمن. إن سياسة دول الخليج الخارجية المتوازنة والمستقرة في علاقتها مع دول العالم تسير وفق المواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة للمحافظة على السلم والأمن الدوليين، كما حافظت دول الخليج على التزاماتها بقضايا الأمة العربية، وأهمها القضية الفلسطينية والدول المواجهة للكيان الصهيوني، والتي انتهت بتطبيعها جميعاً مع الكيان بشكل أو بآخر، بما فيها السلطة الفلسطينية، فدول الخليج دعمت اقتصادات تلك الدول العربية بضخ مليارات من الدولارات أو لدعم سيادتها بتمويل حروبها والمشاركة فيها بالتضحيات، منذ حرب 48 وحتى أكتوبر 73، كما لم تتوان في دعم كياناتها في العقد الأخير رغم الثورات والانقلابات وعدم الاستقرار. إنه ورغم كل هذه التحديات وما يطرأ على العالم من تغيرات في موازين القوى وأثرها على دول الخليج، فإننا على ثقة من قدرة دوله على إحكام السيطرة ليظل خليجنا واحداً متماسكاً كما عهدناه، ولعل ما نواجهه الآن من تحول هز أركان العالم بقدوم زائر لا يرى بالعين المجردة سيعيد ترتيب تلك الموازين على نحو غير مسبوق، ولكنه سيرتكز على إعادة ترتيب الأولويات لإعادة بناء المجتمعات على سواعد أبنائها بمجرد إعطائهم الفرصة كاملة لمواجهة هذه التحديات القادمة، فالشعب الخليجي أثبت قدرته على الصمود والعطاء في أحلك الظروف حين تخلى عنه الجميع، سواء تحت الاحتلال أو في الحروب والأزمات، فللخليجيون سواعد قادرة على الصمود والبناء، ولديهم وجدان ممتلئ بقوة الوفاء والولاء لهذه الأوطان والأرض كما تجاسر آباؤهم وأجدادهم على قسوة العيش وضنك الحياة فتحدوا الصعاب وشيدوا الأوطان. إن إعادة هيكلة التركيبة السكانية في دول الخليج العربي صارت أمراً ضرورياً، حيث أثبتت الأزمة الحالية أن اختلال هذا التوازن بأغلبية وافدة لا يعد أمراً آمناً من حيث القدرة على التحكم والسيطرة والمحافظة على الثروات، وقد كان لتصريح حضرة صاحب السمو أمير البلاد أهمية بالغة حين قال «من الملفات المهمة الأخرى ومنها ملفات التركيبة السكانية»، والذي ما يعني إعادة سياسة الإحلال الوطني وإعادة التوزيع الكمي والنوعي للكفاءات الوطنية في القطاعين الحكومي والخاص ليكون ذلك هو البناء الجديد لهيكل القوى العاملة في دول مجلس التعاون الخليجي والذي بدأت بوادره تظهر في الكويت وعمان ومن قبل في السعودية والبحرين ليعم دول الخليج أجمع. يوم أمس من عام 1844، مخترع التلغراف مورس أرسل أول برقية في التاريخ بين واشنطن وبالتيمور وكتب فيها: «هذا ما عمل الله»، ونحن نرسل قبل يوم من الذكرى الـ 39 لإنشاء مجلس التعاون الخليجي برقية لقادة وشعوب مجلس التعاون بأن أهم أدوات النجاح في الحقبة المقبلة «هيكلة التركيبة السكانية». *** إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان. نقلاً عن "القبس"
مشاركة :