في البداية أهنئ الصديق الأديب حسن بوحسن على صدور مجموعته القصصية (تمر وجمر)، وهي المجموعة الثالثة له بعد (عواطف في أحضان الغول) الصادرة عام 1999 و(خاتون والنسوة وما يشتهون) الصادرة عام 2010، على ما أعتقد. هذا الإصدار الجديد يعزز ويؤكد إخلاص حسن بوحسن لجنس القصة القصيرة على مدى أكثر من عشرين عامًا وعدم الانجرار وراء سحر الرواية الذي تحول إليه العديد من القصاصين والشعراء في السنوات الأخيرة، إما رغبة في الشهرة والبروز أو لأي سبب آخر. ويسرني أن أقدم هذه الانطباعات المتواضعة حول مجموعته الأخيرة بصفتي قارئًا متذوقًا ومهتمًا بالقصة القصيرة، ومن ناحية ثانية متابعًا لمسيرة بوحسن القصصية وقريبًا منها، وليس كناقد أو محلل ضليع في هذا المجال. وقد وضعتُ هذه الانطباعات في عدة نقاط، وهي: أولاً: المحليّة: يقال إن المبدع ابن بيئته، فما يكتبه الأديب أو تجود به قريحة الشاعر هو انعكاس لما في بيئته أو مجتمعه من ظروف وأماكن وشخوص أو أحداث عايشها أو تأثر بها، فنقلها إلى القارئ بعد إضافة الخيال الأدبي والبهارات عليها. ونجد أن المحليّة طاغية على قصص حسن بوحسن ابتداءً من أسماء شخصيات القصص مثل (الحاج كاظم، سلمان، حسّون) وكلها أسماء مألوفة بقريته كرزكان أو بقرى البحرين بشكل عام. كذلك نجد الأماكن والبيوت البسيطة والسوق والأعمال والعادات السائدة في القرية، كالتزاور بين أبنائها والعلاقات القوية بين الجيران ومجالس القرية والساحات والبساتين والأراضي الرملية والمجالس الرجالية فيها. ومثال بسيط على ذلك ما ورد في قصة (أم الزرانيق وريح الصرصر): «الشيوخ يفترشون الأرض في براحة السوق الكبير، يسردون ذكريات شبابهم وأجمل حكايات رحلات الغوص وشغل الجبل وعملهم في الزراعة والدرفلة والاتصالات. وبعض منهم يرتادون المقاهي الشعبية منذ الصباح الباكر، يتسابقون على شرب الشاي وتناول الأكلات الشعبية رخيصة الثمن وهم يستمعون إلى الأهازيج الفلكلورية وأغاني الطرب الأصيل ليوسف هزيم ومحمد زويد وأحمد الجميري ومحمد حسن».هذا النهل إذا جاز التعبير من بيئة القرية ومعالمها وتراثها نجده في معظم قصص المجموعة، ما يدل على تأثر الكاتب وتفاعله مع هذا التراث الغني وانعكاسه في هذه القصص.وأتذكر أن الصديق الأديب أحمد المؤذن عندما أصدر أول مجموعة قصصية له، وهي (أنثى لا تحب المطر) في بداية الألفية الثالثة أو بالتحديد في عام 2003، أبدى بعض الأدباء والكتاب ملاحظة على قصص المجموعة وهي أنّ جميعها قصص محليّة تدور في نطاق قريته، سواء أشخاصها أو أماكنها أو أحداثها، في حين أنه ينبغي على الكاتب -أي كاتب- في رأيهم أن ينطلق إلى فضاءات أكبر وأرحب، في البحرين وخارجها، ولا يكون محصورًا بقريته الصغيرة. ولستُ هنا في محل التعليق على هذه الملاحظة أو ابداء الرأي حولها، لكن يبدو أن المؤذن أخذ هذه الملاحظة محمل الجد وأراد أن يثبت لهؤلاء الأدباء عكس ما ذهبوا إليه، وأن فضاء الكتابة عنده ليس مقصورًا على قريته، فجاءت قصص مجموعته الثانية (من غابات الاسمنت) التي صدرت بعد ثلاث سنوات من صدور مجموعته الأولى، كلها تدور في أرجاء المدينة الكبيرة أو العاصمة.ثانيًا: إبراز هموم ومعاناة كبار السن ومنها اعتلال الصحة والضعف البدني والفراغ الكبير والجوع الجنسي. فقد جاء في قصة (سلّامة وسعود الطيب) في الصفحة رقم 11 مثالاً على الفراغ والجوع الجنسي: «صارت غرفة بيته صغيرة وكئيبة، وأضحى حوش داره الفسيح الذي كانت تسرح فيه الطيور الجميلة وتحوم فيه الحيوانات الأليفة مثل زنزانة صغيرة بجدران خانقة وصامتة. إلا من هجمات سلّامة المفاجئة وصوت رفساتها على الباب الخشبيّ بقوة والدخول من دون استئذان ولا حرج والارتماء في حضنه مثل بجعة تنط في بركة ماء متلذّذة بدفئه وحنيته، والذي يصوّر لها شيئًا من حنان والدها المتوفى قبل عامين في حادث عمل، ولا من الطرقات الخجولة ليد جارته أم سلاّمة، التي اعتادت هي الأخرى على دفع الباب والانسلال إلى داخل البيت كعادتها في وقت الظهيرة، لتذيقه شيئًا من طبيخها الشهيّ، واعتاد هو السير إليها متخفيًا في أوقات متفاوتة من الليل متى اشتاق إليها أو متنكرًا في الصباح متى اشتهى الالتقاء بها». ومثال آخر على الجوع الجنسي ما ورد في صفحة 82 من المجموعة: «قلوبهم المكسورة متلهّفة منذ البارحة إلى تحسّس دقّات خطواته المنتظمة وهي تقترب من باب الديوانية، متشوقين أكثر إلى الاستئناس بالاصطياخ إلى طرقات كفّه الخفيفة على الباب والبدء في الاستماع إلى نبرة صوته الشَجي وحديثه المسلّي حول سفراته المتكرّرة وجولاته التي لا تتوقف إلى مدينة حيدر آباد، يبيّن لهم ما في هذه المدينة من مغريات يفتقدونها، يكشف لهم الخيارات المتعدّدة وأثمانها البخسة، والفرص الوفيرة لتجديد الفراش والظّفر بفتيات صغيرات في عمر بناتهم أو أقل بكثير، فهنّ يمسحن بأديهنّ الناعمة برفق فوق الجرح فيطيب، وبقبضة واحدة من أصابعهنّ الرقيقة على مكمن الألم تزول الأوجاع من منبتها، تنفرج أساريرهم ويدسّون في جيب ثوبه قائمة أسماء».ومثال على اعتلال الصحة والضعف البدني لكبار السن ما ورد في قصة (الحاج كاظم ومليون نملة): «تخطّى حفرًا ومنحدرات وتلالاً رمليّة أجبرت جسده على التأرجح وهو يقطع الدرب الذي طالما طواه صبيًّا وشابًّا ورجلاً وروحة وجيئة في دقائق معدودة، اقترب كثيرًا وهو يصارع ضعف بدنه ويتحدّى وهن العظام وينجز رغبته كهلاً، قهر الإجهاد ولم تشغله عن تحقيق أمله حبّات العرق التي أغرقت جسده وثوبه الرقيق وتساقط كثير منها على الأرض، وصل إلى بيت صديقه والتحم بالباب الخشبيّ».ومثال على التحسّر على أيام زمان ما جاء في نفس هذه القصة (صفحة 55): «كان الحاج كاظم يمعن النظر في قمّة مأذنة المسجد الرفيعة، وكلّما اقترب ناحيتها يزداد خشوعًا ويتمتم بكلمات فيها ذكر لله، وبين حين وآخر يومئ بنظره إلى الأسفل، يُدقّق في الطرق الترابية وتفاصيل البيوت القديمة وجدرانها السميكة ورونقها العمرانيّ السّاحر ويتحسّر، وإذا ما ساعدته عافيته على التقدم خطوة جديدة نحو بيت الحاج مرهون أرسل نظرات لا يفهمها غيره نحو الحدائق والبساتين البعيدة، يتأمّلها جيّدًا ويتذكّر كيف كانت مساحة خضراء مكتنزة بأشجار التّين واللوز والعنب والرّمان وغابة نخيل متشابكة وحزامًا أخضر يطوّق القرية من جهة الغرب بشجيرات البمبر والنبق المتعانقة». لقد كانت البساتين الخضراء وأشجار الفواكه المتنوعة تملأ مساحات القرية وكانت البيوت بطرازها القديم وجدرانها السميكة تسحر الألباب».
مشاركة :