في 26 يونيو/حزيران الماضي، قدمت الترويكا الدائنة (الاتحاد الأوروبي والمصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) للحكومة اليونانية عرضاً سخياً، بتعبير المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، يتضمن تزويد اليونان بحزمة قروض تصل إلى 20 بليون يورو، تُمكِّنها من تسديد مستحقات لصندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي، وتؤمن السيولة المالية للاقتصاد اليوناني، على أربع دفعات حتى نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، في مقابل قبول اليونان تنفيذ إصلاحات وإجراءات تقشف مالية. لكن هذا العرض/الاقتراح رفضته الحكومة اليونانية واستنكرته، معتبرة أن التمديد قصير جداً، والمبلغ غير كاف،والشروط قاسية جداً. واعتبره رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس إنذاراً وابتزازاً وإهانة للشعب اليوناني، وباغت تسيبراس شركاءه الأوروبيين باللجوء إلى البرلمان لإجراء استفتاء على هذا الاقتراح. بعد نقاش محتدم حول ما إذا كان الاستفتاء سيؤدي إلى خروج اليونان من منطقة اليورو، وافق البرلمان اليوناني مساء السبت الماضي ( 2015/6/27) على إجراء الاستفتاء، في 5 يوليو/تموز المقبل، وتمكنت الحكومة بسهولة من اجتياز حاجز 151 صوتاً اللازمة لإقرار الاستفتاء، حيث وافق 178 عضواً (من أصل 300 عضو) مقابل معارضة 120 عضواً. إذ أيد تنظيم الاستفتاء نواب الائتلاف الحكومي، أي حزب سيريزا (اليساري المتشدد)، وحلفاؤه في حزب اليونانيون المستقلين(اليميني)، وكذلك حزب الفجر الذهبي (النيونازي). وصوت ضد تنظيم الاستفتاء حزب الديمقراطية الجديدة (اليميني) وحزب الباسوك (الاشتراكي) وحزب بوتامي (الوسط) وحزب كي كي اي (الشيوعي). وبحسب نص المقترح، سيكون على الناخبين اليونانيين التصويت بنعم أو لا على الاقتراح الذي قدمه الدائنون لليونان. ويتوقع المحللون رفض أغلبية الشعب اليوناني (نحو 70%) إجراءات التقشف، ما يعزز موقف الحكومة اليونانية، وكان تسيبراس، قال قبل التصويت، إنه واثق من أن: الشعب اليوناني سيقول (لا كبيرة) ضد إنذار الدائنين خلال الاستفتاء. لقد ساد تفاؤل حذر، منتصف الأسبوع الماضي، بإمكانية التوصل إلى حل لأزمة الديون اليونانية، حينما انطلقت عملية تقديم المقترحات من الطرفين. إذ تراجعت اليونان عن تصلبها السابق، في رفض التقشف كليا، لتعرض حلولا وسطا. ففي حين كانت اليونان ترفض التعويل على زيادة ضريبة القيمة المضافة، لكنها تراجعت قليلا واقترحت استثناء مجمل المواد الغذائية، وجعل الضريبة عليه في المستوى الأدنى بحدود 13 في المئة، فإن الترويكا الدائنة أصرت على أنها ستقبل فقط استثناء المواد الغذائية الأساسية، مع جعل البقية على مستوى الضريبة الأعلى، أي 23 في المئة. وفي حين يري تسيبراس أن من مصلحة الدائنين تعافي الاقتصاد اليوناني، كي يستردوا أموالهم عبر تمويل الاقتصاد (أموال الإنقاذ)، دفع النمو، تخفيف عبء الديون الهائلة. لكن الدائنين يرفضون مناقشة تخفيض الدين اليوناني، بأي حال من الأحوال. فاليونان - التي تدين ب470 مليار يورو- تلقت من الدائنين حوالي 224 مليار يورو، ذهب منها 200 مليار لإنقاذ البنوك اليونانية فيما ذهب 24 مليارا إلى ميزانية الدولة، أي أن العملية كانت لإنقاذ المصارف أولاً وأخيراً، محملاً الدائنين مشكلة عجز الدولة اليونانية. وفي هذا الإطار، قال وزير مالية اليونان يانيس فاروفاكيس إن بلاده تحتاج إلى شطب جزء من ديونها، مضيفاً في تصريحات لصحيفة بيلد الألمانية في 14 يونيو/حزيران الماضي أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تسمح لبلاده بسداد ديونها المستحقة في أقرب وقت ممكن. وقال وزير الإصلاح الإداري اليوناني جورج كاتروجالوس إن أي اتفاق اقتصادي من دون تخفيف أو شطب للديون لن يعدو أن يكون اتفاقاً لالتمديد والتظاهر، ليس إلا. ورغم أن الدائنين لا يريدون تقديم أيّ انتصار لحكومة تسيبراس (يساري راديكالي). فآخر ما تريده برلين أن تسري عدوى اليسار في بقية الاتحاد، وأن يتم اعتبار تسيبراس ورفاقه نموذجا ناجحا لبقية الدول المأزومة، فإن السبب الرئيس في الأزمة اليونانية يتمثل في أن الفساد لا يزال مرتفعاً، والقدرة الإدارية على تحصيل الضرائب محدودة للغاية. فيما تواجه الوزارات والمؤسسات العامة في أثينا صعوبة في تسديد رواتب ومعاشات الموظفين الحكوميين في نهاية كل شهر، ويتزايد السخط في الشارع اليوناني من الظروف المعيشية القاسية. ووسط الضغوط المالية تلجأ وزارة المالية إلى تدابير يائسة مثل الحصول على الأموال من الحسابات المصرفية للبلديات، والمستشفيات لتغطية المصروفات اليومية للحكومة. ومن ناحية أخرى، تتواصل عمليات السحب المكثف للإيداعات والادخارات من اليونان وتحويلها إلى ملاذات آمنة في لندن وسويسرا وألمانيا. وحسب إحصاءات البنك المركزي اليوناني فقد بلغت كميات الأموال التي خرجت من اليونان منذ بداية العام الجاري، حتى منتصف يونيو/حزيران الماضي، نحو 30 مليار يورو (34 مليار دولار). ومن ناحية ثانية، يواجه تسيبراس منذ شهور معارضة متصاعدة من النقابات العمالية وحتى من أعضاء حزبه اليساري سيريزا بشأن الضغوط المتصاعدة من جانب ترويكا الدائنين بشأن شروط التقشف مقابل صرف أموال الإنقاذ. وكانت نقابات عمال الموانئ قد تظاهرت في 4 يونيو/حزيران الماضي ضد حكومة تسيبراس ووصفتها بأنها خدعت الجماهير بتخليها عن وعودها الانتخابية بحماية مصالح الشعب اليوناني من تغول قادة اليورو وتبعيته بثمن بخس لساسة بروكسل. ويقول بعض أعضاء حزبه في البرلمان أنه شاب صغير ولا يملك الخبرة الكافية لمواجهة ألاعيب ساسة منطقة اليورو. وتكون في الأشهر الأخيرة جناح يساري متطرف يطلق على نفسه المنصة اليسارية. وهذا الجناح يطالب تسيبراس بالانسحاب من المفاوضات مع منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي، حتى وإن كان ثمن ذلك خروج اليونان من منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي. لقد دخلت منطقة اليورو أخطر منعطف منذ إطلاق العملة الموحدة (اليورو) قبل 16 سنة، وبلغت عتبة التفكك مع تزايد احتمالات إعلان إفلاس اليونان، لاسيما إذا ساير اليونانيون موقف الحكومة اليسارية بالتصويت ضد خطة الإصلاحات والقروض التي يقترحها الدائنون، لكن، وبحسب استطلاعين نشرت نتائجهما الصحف اليونانية في 28 يونيو/حزيران الماضي، وأنجزا قبيل الإعلان عن موعد الاستفتاء، فإن أغلبية واسعة من الناخبين اليونانيين أيضا تؤيد اتفاقا مع الدائنين. وكان تسيبراس نفسه أعرب عن ثقته في التوصل لاتفاق للحيلولة دون إفلاس بلاده، قائلاً: أعتقد أن التاريخ الأوروبي مملوء بالخلافات والمفاوضات ثم التوصل إلى تسوية، مضيفاً أنه بعد المقترحات اليونانية الشاملة، أثق أننا سوف نتوصل إلى تسوية سوف تساعد منطقة اليورو واليونان على التغلب على الأزمة. وفي الحقيقة تدير الحكومة اليونانية أزمة ديونها ما بين الاقتصاد والسياسة، ففي الوقت الذي يصرح رئيس الحكومة تسيبراس في قمة المنتدى الاقتصادي الروسي في بطرسبورغ في 17 و19 يونيو/حزيران الماضي، بأن أوروبا لم تعد مركز العالم، وأن هناك قوة صاعدة اقتصادياً واجتماعياً تساهم في تكوين علاقات دولية متعددة الأقطاب، ويلوّح بأن إجبار اليونان على الخروج من منطقة اليورو يعني انهيار المنطقة، لأن مشكلتها لا تخصها فقط، ولكنها تنال العديد من الدول الأوروبية. في رسالة تهديد من تسيبراس للأوروبيين بأن أي ضغوط على بلاده تؤدي إلى خروجها من الاتحاد، والبديل، هو روسيا، وبذلك تفتح اليونان بؤرة جديدة للوجود الروسي في أوروبا، تراوغ وتناور بها موسكو في الملفات الشائكة بين أوروبا وأمريكا من جهة، وروسيا من جهة أخرى. هذا علاوة على أن خروج اليونان سيفتح الباب أمام خروج دول أخرى مستقبلاً، ويزيد من الشكوك حول مستقبل بقاء منطقة اليورو. وعلى أي حال، يبدو أن حسابات تسيبراس وحكومته بشأن نتيجة الاستفتاء بالرفض للخطة الأوروبية، ومن ثم التهديد بالتخلف عن سداد الديون، وإرغام أوروبا على الاختيار بين بديلين لا ثالث لهما: طرد اليونان من منطقة اليورو، أو تخفيف أعباء الديون عنها دون شروط، لن تكون في محلها، فالسماح لليونان بالتخلف عن سداد ديونها والبقاء في منطقة اليورو ليس بالخيار المطروح، فهذا يمثل إشارة إلى أن دولا أخرى في منطقة اليورو بوسعها أن تكدس ديوناً ضخمة، بتمويل من البنك المركزي الأوروبي، ومن دون أي نية للسداد. وهذا من شأنه أن يقوض المسؤولية المالية في منطقة اليورو بشكل قاتل. بيد أن إجبار اليونان على الخروج من منطقة اليورو ليس بالخيار المطروح أيضاً، فهذا من شأنه أن يدفع بالبلاد إلى عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وسوف تنشأ دون أدنى شك انعكاسات خطرة تتجاوز حدود البلاد. لكن هذا لا يعني أن الاتحاد الأوروبي يعدم الخيارات الأخرى أمام سياسة حافة الهاوية التي ينتهجها تسيبراس وحكومته اليسارية بإجراء الاستفتاء على خطة الإنقاذ الأخيرة، فالسلطات الأوروبية لديها خيار ثالث في حالة تخلف اليونان عن سداد ديونها. فبدلاً من إرغامها على الخروج، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يحبس اليونان داخل منطقة اليورو ويحرمها من المال، وهو ما حدث قبل عامين، عندما حاولت قبرص تحدي الاتحاد الأوروبي في أوج أزمتها المصرفية. أحمد دياب *صحفي وباحث في مجلة الديمقراطيةبمؤسسة الأهرام بالقاهرة
مشاركة :