لن يتسع هذا المقال لعرض وتحليل المنتج الثقافي الذي حقنت به شعوب المنطقة خاصة الشباب، إلا أنه لا يمكن الحديث عن تأثير الإعلام والصناعة الثقافية في خلق حالة التشنج الطائفي والعنف الديني والمذهبي والعرقي دون أن نتذكّر طفرة البرامج الحوارية الساخنة والتي حرصت على أن تحول النقاش الفكري في المنطقة إلى حلبات لصراع الدِيَكَة تعزز الصراخ والشتائم كوسيلة للتفاهم والنقاش الفكري؛ ودون المرور على برامج جماهيرية كانت تدّعي التحاور والتقارب بين المذاهب بينما كانت في الواقع تَجمع أكثر الرموز تشددا وانغلاقا على طاولة الجدال لتنتج حوارا أبعد ما يكون عن مكارم الأخلاق، فتصنع من المتعصبين نجوما ومن أسلوبهم نموذجا يقتدى به. كما لا يمكن إغفال الطفرة المهولة في عدد القنوات التلفزيونية والمواقع الالكترونية الدينية التي تفرغت تماما لنقل الآراء المتشددة وترويج التعصب وتبرير كره الآخر والبحث عن كل ما من شأنه تهييج مجموعة ضد أخرى. إن المتصدرين الجدد للمشهد الإعلامي بالمنطقة انقسموا في جلهم إلى فئتين: أ) مجموعة تبحث عن الربح المادي دون أن تعي (إلا من رحم ربي) قيمة الثقافة ولا قِيَم الإعلام، فوقعت فريسة للتنافس التجاري البحت وتناست مسئوليتها الثقافية تجاه المجتمع. فتحولت معادلة العمل لديها من مؤسسات تصنع وتنتج المحتوى الإعلامي المتميز كسلعة تقدمه للجمهور، إلى مؤسسات همها الأول والأخير جمع أكبر عدد من المتابعين وتقديمهم للمعلن، لتصبح معادلة العمل تصنيع وإنتاج الجمهور وبيعهم كسلعة إلى المعلِن الذي لا يهتم بالمحتوى بل بأعداد المتابعين. ب) مجموعة من أرباب الفكر المتشدد والسلوك المتطرف، تزاوجوا مع مجموعات من أصحاب الأجندات الانتقامية والفكر الإقصائي ممن يروّن بأن الغاية تبرر الوسيلة بل وتجعلها مباركة. فأصبحت معادلة النجاح لديهم كسب تعاطف أكبر عدد ممكن من أبناء مجموعتهم، وخلق أعلى درجات النفور والكره تجاه أبناء المجموعات الأخـرى. أما الإعلام الرسمي والذي يدعي بأنه المسئول عن التنمية وبناء المجتمع وحامي حمى الأوطان فبقي حبيس العمل التقليدي الرتيب ذي الجودة المتواضعة. وهو بذلك لم ينجح إلا في شيء واحد هو دفع الجمهور إلى أحضان القادمين الجدد بغض النظر عن دوافعهم وأجنداتهم. مما ساهم دون وعي أو إدراك إلى محو ثقافة وهوية مجتمع الوطن الواحد المتنوع المتعدد المتعايش وترك الباب مفتوحا على مصراعيه لكل من يريد خلق التفرقة وتحويل الثقافة من ثقافة مجتمع إلى ثقافة طائفة ومذهب. فتحولت بعض أكثر مجتمعات الشرق الأوسط تنوعا وتعايشا خلال عقدين فقط إلى أكثرها تنافراً وصراعاً ودمويةً. لم يعد هناك متسع من الوقت لنضيعه على أمل أن يصلح الزمن ما أفسده عطارو الإعلام. فعندما يكون المجهود الانتاجي والفني المبذول لتصوير حرق انسان أو جز رقاب المئات أكثر اتقانا ومهارة وحرفية من انتاج قنوات وبرامج يفترض أن تعزز لحمة المجتمع وتظهر جمال التعايش بين مكوناته؛ نكون أمام مشكلة إعلامية جادة لا يمكن تجاهلها. عندما يخترق عدد المشاهدات على شبكة اليوتيوب حاجز المليون لخطبة طائفية ناريّة أو لمشهد يسخر من طائفة أخرى، بينما تبقى أرقام المشاهدة حبيسة المئات أو بضعة آلاف لمحتوى يدعم التعايش والتآلف بين أبناء المجتمع فنحن أمام خلل ثقافي لا يمكن السكوت عنه. وعندما تنجح قنوات التعصب في توظيف الكلمات والأشعار الحماسية للزج بالآلاف من شبابنا وبناتنا في ميادين القتل والنحر والسبي والاغتصاب، بينما توظف القنوات الرسمية الشعر والحماسة للتغزّل عنـدها نكـون أمـام ناقوس خـطر ثقـافي مريع. - مستشار وباحث في اقتصاديات الإعلام تويتر: @MamdohRo
مشاركة :