الصناعة الثقافية والتشنج الطائفي بالمنطقة 2-1

  • 7/2/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

في عصر ثورة الاتصال والتقنيات المعلوماتية تعتبر الصناعة الثقافية وما تقدمها من محتوى لوسائل الإعلام التقليدية والحديثة من أهم وأخطر الصناعات التي تستطيع أن تساهم بشكل فاعل في بناء الأمم أو هلاكها. فدول العالم المتقدمة والنامية تسعى بكل ما أوتيت من قوة لتتزعّم مختلف مجالات الصناعة الثقافية وتقنية المعلومات لضمان حاضرها وبناء مستقبلها، والصناعة الثقافية تعتبر جزأ أساسيا من سيادتها وهويتها. الخامس عشر من ديسمبر 1993م شهد واحداً من أسخن فصول صراع القوى العظمى في العالم حول الصناعة الثقافية. ففي ذلك اليوم كان العالم يترقب التوقيع على آخر وأهم مجموعة من وثائق اتفاقيات (الجات GATT) متعددة الأطراف إيذانا بتأسيس منظمة التجارة العالمية WTO. إلا أن الجلسة الأخيرة من المفاوضات شهدت الكثير من التعقيد وامتدت إلى ساعات الصباح الأولى. فالأمريكيون المهيمنون على النصيب الأكبر من الصناعة الثقافية في العالم كانوا حريصين على إدخالها ضمن الاتفاقية واخضاعها لأنظمتها لفتح المزيد من الأسواق على منتجاتهم الثقافية. فأرباب هوليود المدعومون بوعود الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون كانوا يطمحون إلى معاملة الصناعة الثقافية (والمحتوى السمعي والبصري على وجه الخصوص) كأي سلعة أخرى ليتمكنوا من قضم نصيب أكبر من السوق العالمي وليتغلبوا على الحواجز التنظيمية التي تحد من انتشارهم في العديد من دول العالم، كنظام الكوتا لتحديد نسبة استيراد المنتج السينمائي والتلفزيوني والمطبوع، وأنظمة الدعم الاقليمية. في المقابل كان المفاوض الفرنسي يرى في الصناعة الثقافية خطا أحمرَ لا يمكن التنازل عنه. فالثقافة من منظورهم ليست حالة تجارية قابلة للربح أو الخسارة، بل جزء من هويتهم، وضامنة لتنوعهم، وخط دفاع رئيسي لأمنهم القومي. وزاد من صلابة الموقف الفرنسي هاجسهم الأزلي للحفاظ على الثقافة الفرنكوفونية في مقابل المد الثقافي الأنجلوسكسوني. في نهاية المطاف وفي الساعات الأولى من فجر اليوم التالي تم توقيع الاتفاقية دون أن تشمل الصناعة الثقافية والخدمات السمعية البصرية. هذا الانتصار الفرنسي لحماية المنتج الثقافي لم يأت دون ثمن، فقد اضطرت فرنسا ومن ساندها في الاتحاد الأوروبي أن تتنازل عن استثناءات سيادية سبق أن حصلت عليها. فتنازلت عن الدعم الأوروبي لمشروع طائرات ايرباص والتي تعتبر فخر الصناعة الفرنسية، وقبلت بألم اخضاع شركات أيروسبيس الاستراتيجية لأنظمة وقوانين اتفاقيات الجات. رغم كل هذه التنازلات والتي تقدر ببلايين الدولارات احتفلت فرنسا ومن معها بحفاظها على صناعاتها الثقافية، وقال الوزير الفرنسي ألآن كاغنو Alain Cargnon يومها مقولته المشهورة: أنه انتصار عظيم وجميل لثقافتنا الأوروبية والفرنسية. وبغض النظر عن الآراء المتباينة حول مدى جدوى الموقف الفرنسي إلا أنه يعكس مدى حرص دول العالم على مشهدها الثقافي ومدى استعدادهم للتضحية من أجل الحفاظ على صناعاتهم الثقافية. لننظر الآن قليلا إلى مشهد الصناعة الثقافية في منطقتنا العربية. ماذا ننتج فكريا وثقافيا؟ ما هي الثقافة التي نصنعها ونؤصلها لدى أجيالنا الصاعدة؟ هل لصناعتنا الثقافية والإعلامية دورٌ في حالة التشنج والصراع الطائفي بالمنطقة؟ المتابع للساحة الإعلامية بالمنطقة اليوم وما تتناقله وسائل الإعلام التقليدية والحديثة وما تفرزه أقنية الإعلام الاجتماعية يلاحظ مدى ارتفاع النبرة الطائفية والشحن المذهبي والدفع في اتجاه التنافر. ورغم ظهور مساع حثيثة خلال السنتين الأخيرتين للحد من هذه الظاهرة وتعزيز ثقافة التعايش والتسامح، إلا أن الفارق لايزال شاسعا بين المحتوى الإعلامي الذي يعزز التشنج والطائفية ويدفع في اتجاه التفرقة، وبين المحتوى الذي يحاول ردم الهوة وتعزيز الأرضية المشتركة وبث روح التسامح والتآلف. لا يمكن تحليل وتقييم التأثير الثقافي والاجتماعي لما تتعرض له الجماهير في منطقة الشرق الأوسط من وسائل الإعلام المختلفة دون العودة إلى الخارطة البرامجية لوسائل الإعلام خلال العقدين الماضيين، منذ أن فتحت تقنيات الاتصال أبواب الفضاء وأثير النت لتجلب لنا أكثر من 1000 قناة فضائية عربية وملايين الساعات من المحتوى الإنترنتي.

مشاركة :