يستثمر قرّاء مسرح فارس الذهبي، الكثير من وقتهم في تقليب أوراق مسرحياته الكثيرة، إذ لديه 11 مسرحية، فهو يكتب مسرحا غير تقليدي بالمرّة، يمسك بك منذ اللحظة الأولى، ضمن بنية أقرب إلى الروائية أو القصصية، ذلك العالم الذي أتى منه بداية، حيث يختصر الحوار في أدنى درجاته، ويرتفع المونولوج والسرد ليصلا إلى أقصى حدود الفعل على خشبة المسرح، هنالك هوامش بسيطة في مسرحيات فارس الذهبي بين الروي الروائي والروي المسرحي، حتى أن القارئ سيسائل نفسه كيف يمكن لهذا أن يكون يوما على الخشبة أمام الجمهور، هل يمكننا نقل المسرح إلى تلك الحالة الشعورية، أو إلى تلك اللحظة السينمائية، حيث تتخذ الصورة جلّ المشهد، بينما يتراجع الحوار المسرحي إلى الخلف. فارس الذّهبي، خرّيج المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، عمل في المسرح منذ 2002، أخرج مسرحيات كثيرة مثل: “حالة محاضرة”، “شيزوفرينيا”، “ريح”، “الساعد الأيسر”، وقدّمت له نصوص كثيرة على المسرح مثل: “ليلى والذئب” (2008) وقد نالت جائزة أفضل ممثلة في مهرجان القاهرة، “مولانا” التي تعد أشهر نص مسرحي له، والتي قدمت في بغداد ولندن وعمان، ومؤخرا في فرنسا حيث قامت فرقة “لا سين منصة” بجولة أوروبية مع العرض قد استمر منذ 2018 حتى 2020، من إخراج نوار بلبل، وكان من ضمنها عروض مهرجان أفينيون 2019.طبعت مسرحياته في بيروت ودمشق والقاهرة، كان آخرها “زفرة السوري الأخيرة” و”صهيل الحصان العالي”. إنه مسرح جديد، فعلا. وفي ما يلي حوار مع فارس الذهبي أحد أقوى أصوات المسرح السوري المعاصر، وجولة مركزة مع مسرحه وكتابته المسرحية. محمد جميل خضر حول طريقته في الكتابة للمسرح من خلال مسرحيتي “صهيل الحصان العالي” و”مولانا” يقول فارس الذهبي “أعتقد أننا نعيش في عصر تتداخل فيه الفنون بشكل كبير جدا، وإلى حدّ بات السؤال عن نقاء العرق الفنّي، مشابها للسؤال عن نقاء العرق البشري، ما معنى رواية دون تقنيات سينمائية أو مسرحية، وما معنى الشعر دون استخدام المسرح السردي، السينمائي وما معنى القصة القصيرة دون استخدام المونتاج البصري، الفنون باتت تتداخل بشكل كبير جدا وصار من المستحيل جذب الجمهور إلى الصالات أو إلى الفن نفسه من دون اعتماد تهجين من نوع خلاق يصب في صالح تطور العرض المسرحي”. ويضيف “لقد وصل المسرح إلى حائط مسدود منذ أكثر من ثلاثين عاما، بفضل اللغة الخشبية والأداء القديم، المنافسة غير العادلة مع الفنون الأخرى، فانفضّ الناس من حوله، وبقينا نحن من يعمل في هذه المهنة الساحرة (المسرح)، من ينبغي عليهم إيجاد حلول لإنقاذها. المسرح مثل باقي الفنون مشكلته تكمن في النصوص، في الورق، وحينما نجد نصوصا جيدة ابتكارية غير مكرّرة، نستطيع ضخ الدم في المسرح عن طريق جذب الجمهور الشاب من جديد. من هنا استعنت بتقنيات سينمائية وسردية جديدة لفتح أفق جديد في المسرح، أعتقد أنني كنت أسير وحيدا، ولكنني مستمر، على الأقل على صعيد النص، ورويدا رويدا على صعيد العرض”. عود على بدء أشهر نص مسرحي للذهبي، قدّم في بغداد ولندن وعمان وفرنسا أشهر نص مسرحي للذهبي، قدّم في بغداد ولندن وعمان وفرنسا نسأله هل المسرح العربي في أزمة فعلا؟ فيجيب الذهبي “المسرح العربي بصيغه القديمة انتهى، وكل ما نراه أمامنا هو تمشيحات، محاولات لسحب جثته قبل دفنها، الفنون العربية كلها دخلت مرحلة السبات، منذ زمن بعيد، لقد قتلها انعدام الحريات، كيف يمكن للكتّاب أن يكتبوا وهم غير أحرار؟ في العالم العربي منذ السبعينات وحتى 2011، وصولا إلى اليوم والرقابة المجتمعية والدينية تفوق الرقابة السياسية، لا يمكن؛ كل الأغاني تتحدث عن الحبيب المفقود، كل الأفلام تتحدث عن الحب وقصص معقمة وخالية من الطاقة الحرة، كل الروايات تتحدث عن الأسرة والطلاق والفراق والأجيال وصراع البقاء، كلها تدور في نفس المكان، بينما يجب على الفن أن ينبش في عمق المجتمع، أن يحفر عميقا في الجنس والسياسة والدين، أن يقلب التراب على ما مضى”. ويرى أن المسرح كما عرفناه انتهى، ونحن نكرّر ما نفعله منذ أربعين عاما، الفرصة الوحيدة لاستمرار المسرح هي في المسرحيين المتواجدين في أوروبا، ستكون عودتهم إلى سوريا والعالم العربي إحياء للمسرح. يكتب الذهبي القصة القصيرة والمسرح ولديه مجموعتان قصصيّتان، وعشر مسرحيات، ست منها مونودراما، وسبب ميله للمونودراما أنها أساس للفن المسرحي، بالنسبة إليه، إذ يشدد على أنها الشكل الأوّل للمسرح في اليونان، هكذا بدأ المسرح، ممثّل واحد يقف أمام الجمهور، ونحن بعد انهيار المسرح، نحتاج لأن نعود إلى البداية، مضيفا “أنا أسير في الطريق منذ بدايته، الإنتاج لا يسمح بتمويل كبير، الممثّلون لا يجتمعون، الفنانون متفرّقون، كل في بلد، سيكون الإنسان محظوظا إن كان يعيش مع ثلاثة أو أربعة فنانين في مدينة واحدة، الكل متشرذم، الجمهور لا يفهم لغتك الأم، من هنا كانت المونودراما عودة، وبداية حقيقية لبناء مسرح حقيقي، يرسم خطا واثقا وجديدا مع الجمهور”. قدم فارس الذهبي مسرحا في عدد كبير من الدول، وعمّا إن كانت هناك فوارق بين هذه المسارح، يقر الكاتب أنه عمل في أغلب مسارح دول المنطقة العربية وفي الولايات المتحدة وفرنسا، وبشكل عام الجمهور يتوق إلى العمل الجيد، ويتقبّله مهما كان موضوعه، ويستدرك “لكن الجمهور عموما في هذا الزمن المتعب يميل إلى الكوميديا، فهي تبسّط الحياة وتنتهي نهايات سعيدة أو مريحة، بعكس التراجيديا التي يعيشها الإنسان يوميا، فهي باتت تتعب المشاهد لأنها تسير في اتجاه واحد، وهو تطهير المشاهد فقط، دون أي فرصة لإيقاظه أو جعله يفكر في واقعه السيء، وهذا أيضا جزء من عمل وزارات الثقافة التي تخصي كل عمل حقيقي في بلادنا”. في مسرحية “مولانا” انخرط الذهبي حتى النخاع في الأجواء الشامية المعتقة والعابقة بالوجد والأولياء والشجن العميق، وفي “زفرة السوري الأخيرة” عاين العسكرتاريا في أبشع صور فسادها، وفي مجمل أعماله يرسم خارطة الأحداث وتفاصيل الشخصيات كما لو أنه يقول للمخرج فقط نفّذ من دون إضافة. حول نظرته للعلاقة بين الكاتب المسرحي والمخرج، يقول الذهبي “بحكم عملي منذ البدايات في كل تفاصيل العملية المسرحية وصولا إلى التأليف والإخراج، أصبحت قادرا على تصوّر المشهد المسرحي كما يجب أن يكون في خيالي؛ كيفية تموضع الممثلين، الميزانسين، الأداء وشكله، الإيقاع، المشهدية، الأكسسوار، لحظة الذروة، الانقلاب، إلخ. لذلك أنا أفترض حينما أكتب للمسرح أنني أنا من سيقوم بالإخراج، أو أنه يتوجب عليّ تقديم تصور كامل للمسرحية كما رأيتها حينما كتبتها، الإرشادات المسرحية ليست تعاليا من قبل الكاتب على المخرج، وظيفتها أن تحدد له منهج الأداء، لا يمكن للحوار فقط أن يقوم بشرح كل تفاصيل العمل، الفن في عصرنا الحالي يعتمد بشكل هائل على التفاصيل، وفي كل مرة يهتم الفنان بالتفاصيل ويقترب أكثر من جعل عمله صادقا وحقيقيا”. الاختلاف والحرية مسرح سوري معاصر جديد مسرح سوري معاصر جديد نسأل الذهبي هل يعتقد بأنّ الثقافة السورية في أسوأ حالاتها، فيجيبنا “على الإطلاق، الثقافة السورية اليوم في أفضل أيّامها، لكن إذا ما اعتبرنا أن الثقافة هي ما يعاش في الداخل السوري الأسير، فيمكن أن تكون الثقافة هناك كابوسا بروباغنديا، أما عن المثقفين والفنانين الذين يعملون في الخارج، فهم في أفضل حالاتهم الفنية، على الرغم من أنهم في أسوأ أوضاعهم الإنسانية المتعلقة بالهجرة والتشرذم، ولكن الحرية أطلقت قدراتهم الحبيسة، نبّهتهم إلى إمكانات جديدة جعلتهم يتفوّقون على جلّ نظرائهم العرب”. ويتابع “السوريون اليوم في جميع المحافل العالمية الثقافية والفنية، يقفون على أشهر وأكبر مسارح العالم، في الأوسكار، في مهرجان كان، في مهرجان أفينيون، في أرفع الجوائز الأدبية، في أشهر عواصم الفن، طبعا المؤسسات الفنية والمسرحية والسينمائية العربية كان يمكن لها أن تستثمر في حرية هؤلاء الفنانين، ولكنها فضلت الانحياز للأمان الوظيفي، والإبقاء على الفن ضمن أطر السلامة الأمنية المطلوبة، كان يمكن للدراما العربية أن تشتعل من الابتكار الذي حصل عليه السوريون بفضل حريتهم بعد خروجهم من سوريا، ولكن القائمين على الدراما العربية كالعادة يفضلون سياق التفاهة، على اقتحام ميادين جديدة، والرواية السورية تتألق أيضا”. طبعا هذا ليس امتيازا أو انحيازا للسوريين، كما يقول، ولكنه امتياز للحرية التي فقدت في أغلب العواصم العربية، بدءا من حرية التعبير وانتهاء بالحرية السياسية. نسأل الذهبي هل يرى أن تشارك العالم بمحنة واحدة قد يجعل السوري أو الفلسطيني أو العراقي أو اليمني ينظر إلى محنته الخاصة بوصفها جزءا من اختلال كوني جارف، لكنه لا يعتقد أبدا أن الهمّ سيغدو واحدا، مقرّا بأن هنالك شخصيات مختلفة للشعوب وكل منها يتعامل مع الأزمة بطريقة متباينة عن الآخر. ويتابع “صحيح أنّ المحنة مشتركة بنفس درجة تشارك الهواء والشمس ولكن الأداء والتعاطي معها سيكون مختلفا حتما، إنه مثل نصّ ترسله لعدد من الممثلين وكل منهم سيؤديه بطريقة مختلفة عن الآخر، رغم أن النتيجة واحدة، لكن هذه هي الحياة وهؤلاء هم البشر، هناك شعوب لا تكترث بكورونا، وشعوب تستخف بها جاهلة خطورتها، وشعوب تبالغ بالحرص ضدها، وهناك شعوب تتعرض لخديعة من حكوماتها، العالم لا يعترف إلا بالقوة أو الذكاء، ونحن شعوب مدجّنة خلف التلفزيون الذي أعتبره أحد أهم أسباب تخلفنا”. لغة المسرح العالم يتطور، واللغة ليست تابوتا خشبيا يجب أن ندفن فيه إبداعاتنا، لتخرج كل كتابات المبدعين متشابهة العالم يتطور واللغة ليست تابوتا خشبيا يجب أن ندفن فيه إبداعاتنا، لتخرج كل كتابات المبدعين متشابهة في ظروف بعينها اجترح مخرجون عرب وأجانب فكرة مسرح الشارع، وهناك أيضا مسرح الستين كرسيا، نسأل الكاتب هنا هل يمكن أن تتفتق عن عقول المسرحيين حلول للمنع والحجر وحظر التجوال وأفكار لمواجهته مثل مسرح الشرفة على سبيل المثال؟ فيعلّق “كل الخيارات موجودة، لكن الفكرة الأهم هي أن المسرح والفن عموما لن يكون مثل ما قبله، الكوفيد – 19 سيكون علامة تفصل ما بعدها عمّا قبلها، وإن لم يكن هذا الفايروس فسيكون كوفيد – 20 أو كوفيد -21، والسبب هو ليس التشاؤم بل عبث الإنسان بمقدّرات الكوكب وبصحته، الانفجار السكاني المرعب، الانتهاك الهائل للإنسانية وللإنسان وللبيئة كل هذا سندفع ثمنه جميعا، مرتكبو الجرائم والصامتون عنها”. ويضيف “أعتقد أن الفكرة الأشد قربا للمسرح المستقبلي، هي إغلاق الجدار الرابع بين الجمهور وبين الممثّلين، بجدار من زجاج، وهذا سيكون نقلة نوعية حقيقية في مفهوم الإيهام الذي عمل عليه صناع المسرح منذ 5000 سنة”. تابعنا في مهرجانات عربية عديدة مسرحيات مغاربية باللهجة العامية، والحق يقال إن معضلة جوهرية نشأت بسبب هذا النوع من العروض. وفي رأي فارس الذهبي حول موضوع اللغة العربية واللهجات السائدة، يقول “العالم يتطور، واللغة ليست تابوتا خشبيا يجب أن ندفن فيه إبداعاتنا، لتخرج كل كتابات المبدعين متشابهة بالحد الأدنى متشابهة من حيث الصياغة وبناء الجمل واجتراح الأفعال، اللغة كائن حي مثلنا، فهي تتنفس وتتفاعل وتتغير، تخطئ وتصيب، مثل كل البشر، من هذه الزاوية أعتقد أن اللهجة العامية أشد حيوية وحياة وسخونة من اللغة الفصيحة المحنطة”. ويتابع “انظر إلى اللهجة المصرية كم هي ثرية وكم هي متوافقة مع العالم ومجرياته، وانظر إلى الفصحى كم هي بعيدة عن نبض الشارع، وكذلك اللهجات في المشرق والمغرب، لا يمكننا أن نتحدث عن: الحاسوب أو التلفاز أو الشاطر والمشطور. اللغة واسمحوا لي أن أسميها لغة، اللغة العامية تتواصل مع باقي لغات العالم وتأخذ منها وتعطيها، مثل الإنسان العربي تماما، انظر إلى قاموس المفردات التكنولوجية، انظر إلى قاموس المفردات المتعلقة بالكمبيوتر والسيارة والطيارة والإنترنت والهاتف، وبالتالي انظر إلى الأفعال الجديدة التي ابتكرها الناس، أين هي اللغة الفصحى من هذا، أعتقد أن كهنة اللغة العربية يتمسّكون بمعبد فارغ إلّا منهم، بينما الناس يرقصون في الشوارع خارج هذا المعبد. حتى يبدو الأمر مثل دعاة السلف الصالح، ودعاة اللغة النظيفة، لا تقل هذا وقل ذاك، وهذا خطأ وذلك صحيح”. وفي رأيه المسرح جزء من الحياة، ويجب على المسرح والأدب أن يتواصلا مع الناس وإلا فلا قيمة لهما، ما قيمة أدب صحيح لغويا لا يقرأه أحد؟ مسرحية زفرة السوري الأخيرة ستقدّمها في السويد فرقة شبابية من مدينة مالمو مسرحية زفرة السوري الأخيرة ستقدّمها في السويد فرقة شبابية من مدينة مالمو نسأله هل يعتقد أن المسرحية هي تلك المنشورة في كتاب أم المعروضة على المسرح؟ فيجيبنا “كلاهما مسرح. لكن يمكننا التفريق بين المسرح كعرض، والمسرح كأدب، بمعنى لدينا أدب مسرحي لعشاق الأدب والقراءة، فلا يمكن لكلّ مسرحية أن تقدّم على المسرح، بسبب كثرة المسرحيات في العالم، ولكن يمكن لكل مسرحية أن تكون أدبا يمتع أيضا في القراءة مثلما يمتع في الأداء، ولربما تكون القراءة بوابة للعروض. في حديث لي مع مخرج سوري في دمشق في العام 2008 اتفقنا أن المسرح يجب أن يكون بالعامية والأدب المسرحي يجب أن يكون بالفصحى، وهي معادلة ترضي سدنة اللغة العربية. احتفظوا بالكتب كما تريدونها، ولكن اتركوا لنا الخشبات لنلعب عليها كما يحب الشعب والأهالي”. وحول جديده المسرحي، بعد “زفرة السوري الأخيرة”، يقول فارس الذهبي “أنهيت مؤخرا مسرحية ‘طيران فوق عالم قذر‘، التي تعالج فكرة المثلية الجنسية في الشرق الأوسط، وأعمل حاليا على نص كبير نسبيا، بشخصيات متعدّدة هو استعادة تكريمية لفكرة المسرح ككل. ننتظر تقديم عرض ‘زفرة السوري الأخيرة‘ في السويد، لكن وباء كورونا أوقف كل شيء، لا أعلم هل سيستمر المشروع أم لا؟ لكن ما شاهدته من بروفات عبر السكايب، كان مدهشا حقا، التمثيل كان مدهشا، العرض سيقدم من قبل فرقة شبابية في مدينة مالمو السويدية”. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :