"إذا هوى": الحب والانهيار في بيروت المسرح والمسرحية | حنان مبروك | صحيفة العرب

  • 12/6/2023
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كيف هوى لبنان؟ وكيف تهوي عواصم أخرى؟ كيف يهوي العمر بأجسادنا؟ كيف يغلبنا الزمن فيثقل حركتنا ويفرض على الأجساد ثقلا يمنعها من الرقص والحب وحرية الحركة؟ وكيف تثقل كاهلنا هزائم مدننا المحببة؟ كلها أسئلة قد تدور في ذهن المشاهد للعرض المسرحي الراقص “إذا هوى” الذي يجمع ثنائي لبناني شهير هما حنان الحاج علي ورفيق دربها روجيه عساف، اللذان يقدمان تجربة مسرحية مغايرة، تبحث في حدود الجسد، عبر عرض كوريغرافي يحاول الانطلاق من الخاص نحو العام، ليفكك التجارب والأزمات الشخصية ويسقطها على الواقع الأشمل، الذي ترمز إليه بيروت. جاءت فكرة هذا العمل الذي أخرجه اللبناني علي شحرور، وعرض ضمن الدورة الرابعة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية، من الانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتكررة التي تتوالى على بيروت، “ست الدنيا”، كما لقبها الشاعر السوري الشهير نزار قباني، لتحولها إلى “مأساة” أو تراجيديا تستفز الفنانين من أمثال شحرور ليقدموا قراءة فنية لحال البلد من زاوية نظر مختلفة، تنطلق هذه المرة مع المخرج المسرحي من عيني “شيوخ البلاد”، ممن كبروا فيها عقدا تلو عقد شاهدين على انهياراتها، ممن يمتلكون خبرة وتجربة اطلعوا فيها على أزمنة بيروتية مختلفة. في هذا العرض المسرحي الراقص، تتقاسم حنان الحاج علي وروجيه عساف الخشبة مع عبد قبيسي الذي ينزوي إلى الجانب الأيسر من الخشبة ليصنع موسيقاه، فيما يجلس علي شحرور وشادي عون، ليشاركا البطلين مشاهد متباعدة. مغامرة كوريغرافية علي شحرور الذي يعد من أبرز الأسماء في عالم الكوريغرافيا يخوض مغامرة بجسدي عساف والحاج علي يحمل هذا العرض المسرحي الكوريغرافي منذ عنوانه رمزية مهمة، حيث اكتفى المخرج بكلمتين، يفهمها المتلقي كل حسب مزاجه الفكري والنفسي، لكنها كلها أمزجة ستتلاقى حتما في ثنايا الحكاية. “إذا هوى” بين الهوى كدرجة من درجات الحب، وبين “هوى” بمعنى السقوط، كل يفسر عنوان العمل كما يشاء، وهو فعلا يجمع الممثلين الرئيسيين على لحظات متواترة بين الهوى والهاوية، فمرة هما عاشقان يستعيدان حبا كبيرا، ومرة هما يهويان كما هوت بيروت وكما تسقط الإنسانية سريعا في الهاوية. ويخوض المخرج والكوريغراف علي شحرور الذي يعد من أبرز الأسماء في عالم الكوريغرافيا في المنطقة العربية، مغامرة بجسدي عساف والحاج علي، تجمع بين التمثيل والتعبير الحركي الذي تطغى عليه الإيماءات ويخضع للتأويل الرمزي. ينطلق العمل بموسيقى غامضة، ألفها اللبناني عبد قبيسي، لتعلن عن لقاء شخصيتين، هما الزوج والزوجة (روجيه وحنان)، الحبيبان فوق الخشبة وخارجها، اللذان يحضران كشخصيتين حقيقيتين شاهدتين على خراب بيروت. الممثلون هم أبطال العمل، إلى جانب الموسيقى، فالمسرح شبه فارغ طوال مدة العرض التي جاوزت الخمسين دقيقة، وحدها الإضاءة التي صممها الفرنسي غيوم تيسون تتبع الأجساد الراقصة، وتضفي على حركاتها وسكناتها هالة من نور، هالة تحول الخشبة إلى آلة للزمن، تحدد للمشاهد الحدود الكبرى الفاصلة بين الأمكنة والأزمنة والأحوال، بين واقع البشر المتغير والمتذبذب بين ضعف وقوة، فرح وألم، وبين واقع المدينة ونفوس سكانها. روجيه وحنان، هنا، هما عماد اللعبة المسرحية الراقصة، تراهما يتحركان بحرية، يمشيان، ينامان، يتكوران على نفسيهما، يستسلمان، ويحاولان الرقص بآخر قدراتهما الجسدية. إذ يظهر العمل قدرة علي شحرور على استفزاز هذا الثنائي المسرحي اللبناني والعربي الكبير على المزيد من العطاء، المزيد من الأداء التمثيلي والمزيد من الرقص، باحثا في ثنايا روحيهما عما اختزناه من قدرات لمثل هذه اللحظات، للحظات تأمل بيروت وواقعها المؤلم. وتمنح موسيقى عبد قبيسي بضرباتها الحادة، ونغماتها المتنوعة وصوته العميق الذي يحضر كترنيمات كنائسية أو كذكر إسلامي، جمالية للعمل المسرحي، فموسيقاه وصوته يواكبان حركة الجسد المتفاوتة بين الإيقاع الجنائزي، كما في مشهد احتضار روجيه عساف، أو لحظات الأنس والمرح بين الحبيبين أو مشاهد الحوار المتشنج بينهما، أو حتى ذلك الإيقاع السريع الذي يعيدنا إلى مشهد زفاف الحبيبين. كما قال ابن الطوبي يوما “إذا بَدَتْ تَرْقُصُ ما بَيْنَنا يَرْقُصُ قلبي بينَ أحشائي”، تفعل حنان الحاج علي الأمر نفسه، فحين ترقص على الخشبة يرقص قلب روجيه عساف وكذلك قلوب من يشاهدونها، فهي لا تؤدي حركات راقصة عادية، إنما تثور في وجه الواقع العربي المأساوي، تصرخ في الإنسانية، وتردد أغنياتها الحزينة، ترقص فرحا وتعبر عن نفسها، عن أحلامها وآمالها الموؤودة، حتى إنها تصرخ في أحد المشاهد صرخة صامتة، حولتها إلى منحوتة ثائرة في وجه كل أشكال القهر والظلم والضعف. ثورة راقصة pp “حقيقة المدينة ليست في الصور المعروضة عنها بل في الجروح التي تنبجس منها”، إحدى الجمل المهمة التي دارت بين بطلي العمل المسرحي، اللذين فككا تركيبة المشاعر المسيطرة على أفئدة الشعوب العربية، حتى إنهما مرا سريعا على غزة، حيث تبدو الهاوية أشد وضوحا من غيرها في بقية المدن والعواصم العربية. في هذا العمل مر الممثلون/ الراقصون، روجيه وحنان، يشاركهما الخشبة والرقص من حين إلى آخر، شادي عون وعلي شحرور، على أنماط متعددة من الرقص، منها طوفان دراويش الصوفية ورقصة زوربا الشهيرة، التي كانت تُستخدم في الاحتفالات الدينية والاجتماعية في اليونان القديمة، وتؤدى بوجود الراقصين في صف واحد بينهم مسافات قليلة تحدد بمد كل راقص ذراعه ووضعها على كتف الراقص المجاور له، بحركة أرجل فتكون تبادلية وفي أثناء ذلك يتحرك الصف بأكمله إلى اليسار واليمين وبسرعات مختلفة على حسب الإيقاع الخاص بموسيقى الزوربا وقد يترك أحد الراقصين أو بعضهم الصف ليؤدي عددا من الحركات الاستعراضية الراقصة قبل أن يعود إلى الصف مرة أخرى. وهذا ما كانت تفعله حنان الحاج علي بانسحابها من المجموعة لتدور حول نفسها، في رقصات صوفية تسمو بها الروح وتتحرر من أدران الواقع، واقع بيروت المأساوي الذي أنهك البيروتيين واللبنانيين وأدخلهم صراعا لا حد له بين الرغبة الجامحة في الانتماء إليها والذوبان فيها وبين رغبة أشد إلحاحا في هجرها والابتعاد عنها وبالتالي هجر التعاسة وصعوبة العيش. تطوف الراقصة ويداها نحو السماء وجسدها يتماهى مع روحها المنصهرة في الموسيقى، بملامح تتغير بتغير الحالة الشعورية التي تعبر عنها، إنها تطوف حول الرجل، الذي يرمز لبيروت المتعبة، كما يطوف هو حولها ويتخذها رمزا لتعبه ولوطنه المنهك. وحين تصرخ فيه “الأحياء لديهم حاضر غير ثابت بين الأفضل والأسوأ”، يجيب منكسرا “إذا أنا لست حيا”. هذا العرض المسرحي هو في الحقيقة مشاهد أشبه بالحلم، على الأقل بالنسبة للشباب، أن يرى الواحد منهم أيقونتين من المسرح اللبناني والعربي، عبث الزمن بهما لكنهما لا تزالان قادرتين على الرقص بجسديهما، تبوحان به عن أوجاعهما، أوجاع البيروتيين وأوجاع بيروت المدينة التي هوت دون أن يسلب هواها من قلب كل من أحبها. كيف يقدر روجيه عساف بعد بلوغه عقده الثامن الرقص والتعبير بجسده لولا الهوى؟ الأمر نفسه ينطبق على حنان الحاج علي، ذات الخمس والستين عاما، والتي تملكت الخشبة وتحركت على ألواحها كراقصة ماهرة في أوج عطائها. إنه الهوى، هوى المسرح وهوى بيروت. لمحة تأريخية yy لمن لا يعرف بطلي “إذا هوى”، روجيه عساف هو مخرج ومؤرخ وواحد من أبرز الوجوه المسرحية العربية، من مواليد العام 1941، ومن رواد المسرح الطليعي العربي الواقعي والذي لا يخاف الغوص في مختلف أساليب التجريب والتعبير المسرحي. يمتلك عساف مسارا فنيا فريدا ومتعدد المراحل، بين تأسيس “محترف بيروت للمسرح” (1968) ومسرح الحكواتي الشهير (1979) التجربة التي لاقت نجاحا في مهرجانات عربية ودولية ونالت جوائز عديدة. كما أسس في العام 2005 مركز دوار الشمس، وهو مركز هدفه دعم محاولات التعبير الشبابية وتفعيلها. أما حنان الحاج علي، شريكته في المسرح وفي الحياة، فهي فنّانة مسرحية وناشطة وباحثة لبنانية من مواليد عام 1958. بالإضافة إلى عملها المسرحي الذي بدأته عام 1978 بعرض “من حكايات 1936″، هي، أيضا، معلّمة في قسم الدراسات المسرحية بـ”معهد الدراسات السمعية والبصرية والسينمائيّة” التابع لجامعة القدّيس يوسف في بيروت. حرّرت وألّفت كتبا ومطبوعات حول البحوث الثقافية والفنية والسياسات الثقافية، وشاركت ممثّلة في العديد من الأعمال السينمائية. من آخر اشتغالاتها ومشاركاتها المسرحية: “جوغينغ” (2018) من تأليفها وتمثيلها، و”لعلّ وعسى” (2022) لكريستيل خضر، و”إذا هوى” (2023) لعلي شحرور.

مشاركة :