تعرف على القصة المؤثرة في حياة «غلام الباكستاني» في المملكة

  • 6/12/2020
  • 18:02
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

روى الأستاذ خالد بن عبد الله الجدوع، قصة بالغة التأثير عن وافد باكستاني “توفاه الله”، امتاز بحرصه على إدراك الصلوات كلها في المسجد في مواعيدها، وبغيرها من العبادات، واصفاً إياه بـ”الرجل العظيم المجهول في الأرض والمعروف في السماء”.وقال الأستاذ “الجدوع”، في سلسلة تغريدات عبر “تويتر”: “طلب مني من لا يُرد مثله أن أكتب عن فقيد جامع الملك عبدالعزيز بمحافظةالدلمالأخ الغالي العابد الزاهد غلام الباكستاني، ولست أهلا للكتابة ولكنها محاولة لإبراز بعض الجوانب والمواقف عند هذا الرجل العظيم المجهول في الأرض والمعروف في السماء، فكانت هذه التغريدات، ولا تنسوه من دعواتكم“.واستهل الجدوع روايته لقصة”غلام الباكستاني” بقوله : “قدم غلام رحمه الله للدلم قبل 15 سنة تقريبا بوظيفة خياط في محل خياطة نسائية قريبا من جامع الملك عبدالعزيز بالدلم وكان يصلي في الجامع لأنه أقرب مسجد لمقر عمله وسكنه، ولم يكن هناك ما يميزه عن غيره سوى أنه حريص على الصلاة بخلاف حال الكثير من العمال الذين قد يشغلهم ارتباطهم بأعمالهم عن الانضباط في إدراك الصلوات كلها في المسجد في مواعيدها.”وتابع :”هذا الأمر أثار انتباه الشيخ عبدالرحمن بن خالد بن حسين إمام الجامع في الفروض، فأعجب بغلام وبدأت العلاقة بين الإمام الحريص على التعرف على جماعة مسجده فرداً فرداً وبين مصلٍ قلبه كان تائها في دروب الحياة ثم وجد بغيته ومستقره في بيت الله، يحوطه إمامه بحبه ورعايته، وهنا بدأت القصة العجيبة”.ثم بدأ الجدوع في رواية ما جرى لغلام مع إمام الجامع: “بدأ الشيخ عبدالرحمن الذي كنا نناديه بكنيته التي يحب أن نناديه بها (أبو خالد) بالتقرب من غلام رحمه الله والبشاشة به -وهذا حاله مع كل من يصلي معه من جماعة المسجد- حتى تمكن حبه من قلب غلام، وبدأ أبو خالد جزاه الله خيرا في توجيه غلام وتعليمه أمور دينه واتباع السنة في كل أحواله، فاعفى غلام لحيته، واهتم أكثر بالتبكير للصلاة مع الأذان أو قبله لكل الفروض”.ازدادت العلاقة عمقا بين الإمام والمأموم، فكان أبو خالد يصطحب غلام معه في مناشطه ولقاءاته الدعوية حتى تعلق قلبه بحب العلم وأهله، ورغب في الاستزادة منه، فتوجه إلى أصل العلوم وهو القرآن الكريم فانكب على تلاوته كثيراً حتى يستقيم لسانه به، وبدأ يجلس بين الصلوات في الجامع لا يقطعه من تلك اللذة إلا حاجة العمل إليه في محل الخياطة.ومع مرور الوقت، ويوما بعد يوم، استطاع غلام أن يتسلل إلى قلوب جماعة المسجد كلهم الذين أحبوه وأحبهم، وكانوا له كالأهل والأصدقاء. فكان يحترم كبيرهم ويراعيه، ويعطف على صغيرهم ويمازحه، وصديقا لمن هم في سنه -وكنت منهم- فصار غلام صديق الجميع ومحبوبهم.اهتم غلام بتلاوة القرآن الكريم كثيرا، وتاقت نفسه لحفظه، فبدأ رحلة عجيبة فيها من التحديات الشيء الكثير، فهو أعجمي لا يعرف العربية قبل قدومه للمملكة، كما أنه مشغول بطلب الرزق من خلال عمله، ومع هذا كله عقد العزم على الحفظ وبدأت الرحلة مع هذا الكتاب العظيم.ومن خلال حلقة لتحفيظ القرآن الكريم في الجامع تولى التدريس بها احتساباً رجل فاضل ومعلم متقن وهو الدكتور عبدالرحيم الكردي طبيب الأسنان آنذاك في الوحدة الصحية للبنين، فبدأ غلام بتصحيح التلاوة ابتداءً حتى يستقيم لسانه، ثم بدأ يتدرج في الحفظ من قصار السور، فزاد ذلك في خشوعه في الصلاة وكان البكاء والتأثر من سماع القرآن ديدنه في صلواته.تعلق قلب غلام بالقرآن الكريم أكثر وأكثر فعقد العزم على الخلوة بكلام الله عز وجل في الليل وبدأت رحلة أخرى مع الأسحار في صلاة التهجد لمناجاة الرحيم الرحمن، وصار قيام الليل جزءا لا يتجزأ من برنامج هذا الرجل العابد الصالح، وصار يصلي في سطح مقر سكنه ليتلذذ بالخلوة مع ربه بعيدا عن إزعاج زملائه في السكن الذين انشغلوا بمتابعة القنوات الفضائية وضيعوا أوقاتهم فيما لا نفع فيه على حد وصفه لحالهم.وبعد القرآن تلاوة وحفظا، وصلاة الليل خلوة وتلذذا، فُتح لغلام باب في حب صيام التطوع فكان لا يدع الاثنين والخميس والأيام البيض وستا من شوال وعشر ذي الحجة وعاشوراء وغيرها من الأيام الفاضلة، فجمع الله له تلك العبادات العظيمة التي سمت بروحه وهذبت نفسه، حتى ظهر ذلك على أخلاقه التي أسر بها قلوب كل من تعامل معه أو عرفه.والحسنة تقول أختي أختي، فقد قذف الله في قلب غلام حب مكة وزيارتها، فكان لا يدع العمرة تلو العمرة حتى لربما اعتمر في السنة 5 أو 6 مرات، ويسّر الله له الحج إلى بيته العتيق 3 مرات في المدة التي قضاها في الدلم، وكان يطير فرحا كلما زار مكة ويعيش طمأنينة ولذة يدركها من يراه بعد عودته من تلك الديار المقدسة. فكانت رحلة العمرة أعز هدية يمكن لأحباب غلام أن يقدموها له.وتابع “الجدوع” حديثه عن الباكستاني المحبوب: “اهتم غلام كذلك بطلب العلم، فانخرط في حضور دروس مكتب دعوة الجاليات بالدلم، ولازم الدعاة هناك، وكان يرافقهم في رحلاتهم الدعوية،حتى صار داعية يحب العلم ويحرص على تعليمه لإخوته العمال الناطقين بلغته، وكان حريصا على حضور المحاضرات والدروس العلمية، فكان يرافق إمام الجامع في حضور الدروس والكلمات الوعظية التي يلقيها الإمام في المساجد حتى صار غلام معروفا عند المشايخ الفضلاء الذين يزورون المحافظة لإلقاء الدروس والمحاضرات”.ومما تميز به غلام رحمه الله، التوكل على الله حق التوكل، فتجده شاكرا لله في كل أحواله، مفوضا أموره كلها له سبحانه، ملتجئاً إليه في كل ما يعترضه من أمور الدنيا، مبتهلا بين يديه بالدعاء والتضرع إليه، وكنا نرى أثر ذلك عليه في أمور عظيمة يحققها الله لهذا العبد الضعيف في نظر الناس القوي بتأييد الله له، وتيسيره سبحانه لأموره.وقد حاز غلام محبة الجميع وخاصة كبار السن في الجامع، فكان يخدمهم ويحرص على رعايتهم في الجامع، والقيام بشؤونهم، وتوصيل الكفيف منهم إلى بيته بعد الصلوات بل وإحضارهم للمسجد للصلاة أحيانا، وكان متعففا عن سؤالهم مع فاقته وشدة حاجته، فكان كالولد البار لهم، يدعون له ويتفقدونه ويقضون حوائجه، ويفتقدونه إذا سافر للعمرة أو الحج أو كان في إجازة لزيارة أهله في بلاده.واستطرد قائلا: “وممن أسرهم غلام بأخلاقه والدي رحمه الله، فقد كان يتعاهده بالبر والإحسان لعلمه بتعففه وترفعه عن المسألة، وأهداه رحمه الله هدية جميلة وجدت قبولا عند غلام حيث اشترى له بيتا في بلاده تقديرا له وإعانة له على تأمين عائلته بأهم احتياج لهم، فلم يجد غلام ما يكافئ والدي به إلا أن يسمي ابنه الأكبر باسم أبي رحمه الله فكانت كنيته أبوعبدالله تيمنا باسم الوالد عليهم جميعا رحمة الله”.وممن أسرهم حب غلام كذلك، محافظ الدلم سابقا الأستاذ الفاضل ثامر الشتوي وفقه الله الذي كان معجبا بأخلاق غلام وحرصه على العبادة وحسن توكله على الله وتعففه عن المسألة، فكان المحافظ يحوط غلام ببره وإحسانه وصلته وحبه، ويذلل له كل الصعاب التي يواجهها، فجزاه الله خيرا.وأضاف “الجدوع”: “ضرب غلام لنا أمثلة رائعة في البذل والجود والعطاء مع قلة ذات يده، فكان أنموذجا للعبد الصالح الذي يؤثر غيره على نفسه ولو كان به خصاصة، فقد كان يقوم على كفالة ورعاية أرملة أخيه وأيتامه بعد وفاته، وكان يخصص لهم جزءا من دخله الشهري، ويحول لهم ما يسد حاجتهم ويغنيهم بعد فضل الله عن سؤال الناس. فكان ممن يصدق فيهم فضل القائم على الأرملة واليتيم”.وكان رحمه الله حريصا على الصدقة مع حاجته وعوزه، فلا يكاد يترك محتاجا أو سائلا ممن يقفون لسؤال الناس في الجامع إلا ويبادر للصدقة عليه بما يتيسر ولو كان قليلا، ويقول لعلّي اجمع الخصال الأربع التي جمعها الصدّيق رضي الله عنه في يومه فكان يحرص أن يكون صائما متصدقا عائدا للمريض مصليا على الجنازة.ومما أثر في تأثيرا بالغا أنه في إحدى رحلات العمرة التي ذهب فيها، وأثناء طريق العودة في شدة الحر في رمضان، ومع تعطل التكييف في الباص، يقول بلغ بالركاب جميعا الجهد والعطش وكان معهم نساء وأطفال فذهب للسائق وطلب منه أن يقف في أقرب محطة، ونزل واشترى بما بقي معه من مصروفه الخاص للرحلة وكان مبلغ 86 ريال كراتين الماء البارد والعصير ووزعها على الركاب وقال لي وهو يروي القصة متأثرا: أعظم الصدقة سقي الماء.كان غلام حاضر الدمعة خاصة عند سماع القرآن والمواعظ، وعند شهود الجنائز وكان يصف نفسه بأنه ذليل حقير حتى اشتهرت عنه عبارة: “أنا حقير” وهو يقصد اتهام نفسه بالتقصير في جنب الله واحتقار عبادته -على كثرتها- وخشيته من القبر وما فيه، ومن يوم القيامة وأهواله، فكان كثيرا ما يسأل الله الفردوس الأعلى من الجنة.كان غلام يكثر من الدعاء ويتحرى مواطن الإجابة، فكان لا يدع الجلوس في المسجد عصر الجمعة يتحرى ساعة الإجابة، ويغتنم الدعاء بين الأذان والإقامة، ويتلذذ بالجلوس في مصلاه بعد الفجر حتى تطلع الشمس. فكان يُرى كثيرا رافعا يديه مبتهلا لله متذللا بين يديه يدعو ويبكي، ويدعو لإخوانه وأحبابه بأسمائهم، ويسأل ربه خيري الدنيا والآخرة.في آخر رمضان له، كانت الصلاة معلقة في المساجد بسبب جائحة كورونا، فكان حزينا جدا، ولم تطق نفسه الزكية الصبر عن المسجد والانقطاع عن الصلاة تلك الفترة، فكان يصلي كل ليلة من بعد العشاء حتى الثالثة فجرا، فيسر الله له ختم القرآن ست ختمات في صلاة التهجد والقيام في شهر رمضان.وبعد انتهاء رمضان، بادر كعادته في كل عام باغتنام الوقت وبدأ بصيام الست من اليوم الثاني من شوال حتى يظفر بالأجر العظيم لصيامها والذي يحرص عليه كل عام، وبعد انتهائه من الصيام كان له موعد مع رحلة الختام.تعرض غلام رحمه الله للتعب وارتفاع درجة الحرارة قبل العودة للصلاة في المساجد بيومين، فراجع المستشفى وقرر الطبيب تنويمه ليكون تحت الرعاية الطبية، ثم حوله الطبيب للعناية المركزة! بدأ القلق يساور إمام الجامع عندما مُنعت الزيارة عن غلام، فكان يتعاهده بالاتصال دوريا والسؤال عن حاله.فرح غلام فرحا شديدا لمّا أبلغه أبو خالد بفتح المساجد للصلاة فجر الأحد فبكى غلام بكاءً شديدا وأصر على الإمام ليأتي ليخرجه من المستشفى لأن قلبه معلق بالمسجد فهو كالسمكة تموت وتهلك إذا أخرجت من الماء، ولكن الطبيب رفض، وحزن غلام لفقده المسجد والصلوات حزنا عظيما، ورضي بقضاء الله.تدهورت حالة غلام يوما بعد يوم، واشتد معه المرض، وصعب عليه الكلام، وكانت المكالمة الأخيرة بينه وبين أبي خالد رفيق دربه في الجامع يوم الخميس 12 شوال، وقطعت ممرضة العناية المركزة المكالمة وأبلغت أبا خالد بأن حالة غلام متأزمة ولا يستطيع الكلام أكثر وأغلقت الخط.وعاش أبو خالد حالة من القلق والخوف والترقب لعله يظفر باتصال يحمل بشارة تأتيه من المستشفى بتحسن حالة غلام. وأتى الاتصال بالفعل من المستشفى عند الساعة الواحدة صباحا قبل أذان فجر الجمعة 13 شوال 1441هـ، ولكنه كان يحمل عبارة نزلت كالصاعقة على قلب الإمام المحب والصديق الوفي: “أحسن الله عزاءكم في غلام” ! أحقا رحل أبو عبدالله !! أحقا غادر بلا رجعة ! هكذا بدون مقدمات .. هكذا بدون وداع !! “إنك ميت وإنهم ميتون” “لكل أجل كتاب”.كانت تلك اللحظات عصيبة على أبي خالد وموجعة وقاسية ولكن هذا قضاء الله وقدره ولا يملك المرء معه إلا الرضا والتسليم. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا غلام لمحزونون، وإنا لندعو الله أن يغفر لك ويرحمك، وأن يجعل ما أصابك من مرض كفارة لخطاياك ورفعة في درجاتك، وأن يجمعنا بك في الآخرة في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأن ينزلك منازل الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وإنا لله وإنا اليه راجعون.

مشاركة :