من الطب والجراحة إلى فلسفة الحضارة - إبراهيم البليهي

  • 7/5/2015
  • 00:00
  • 20
  • 0
  • 0
news-picture

لقد تطورت الإنسانية تطورًا هائلاً في العلوم والفنون والنُّظُم والتقنيات ولكنها مازالت تعيش في أدنى دركات التخلف من الناحية الأخلاقية فحين تقارن بين القدرات التي توفرت ومستوى التفكير والأخلاق عند القطعان البشرية تظهر المفارقة الصارخة ويخيَّل إليك أن الذي طوَّر هذه القدرات هو كائنٌ آخر مختلف عن الناس الذين يستخدمونها.. الإنسان أنانيٌّ بالطبع، ولا يرتقي عن هذا الطبع التلقائي المستحكم إلا بتنشئة أخلاقية رفيعة فالأخلاق العالية هي المزية الإنسانية الحقيقية وليست القوة أو القدرة... إن الاندفاع إلى الاستئثار والحيازة وامتلاك القدرة والقوة .. والرغبة الجامحة في التغلب والهيمنة تتفق مع طبيعة الإنسان التلقائية؛ لذلك فإن عظمة الإنسان تتجلى في التحرر من هذا الاندفاع التلقائي والخروج من قوقعة الذات والارتقاء إلى الآفاق الإنسانية الرحبة والتخلي عن الأنانية والتحيُّز والعدوانية والأثَرة، والنظر إلى المغايرين بحياد وعدل وإشفاق وإيثار وكذلك الانفكاك من غوغائية القطيع والوقوف منفردًا عن الجميع بحثًا عن الخير للجميع فيحكم على الأفكار والأعمال والأشخاص والآراء والمواقف بمعيار محايد بقدر ماتسمح به الطبيعة البشرية المكبلة تلقائيًّا بالنقائص فيجتهد في تقييم الأوضاع وتشخيص مصادر الخلل ويوقد الشموع في طريق الحكمة والخير والفضيلة والجمال. إنها المهمة الأعظم نبلاً والأشد إلحاحًا والأقل قبولاً؛ لذلك فإنها من أندر الخصال في الناس في كل الأمم ومن هنا جاءت الإشادات المتكررة بالطبيب الفيلسوف البرت شفايتزر الذي صار من أبرز فلاسفة الحضارة.. إنه يملك رؤية إنسانية مفتوحة وروحًا أخلاقية عالية ومعارف متنوعة عميقة فأمضى حياته لنشر التآخي وتأكيد أولوية الأخلاق والتنديد بالممارسات الأنانية المستأثرة فكان مثالاً للإيثار ونموذجًا للرؤية الإنسانية المفتوحة والمعرفة العميقة الشاملة فاكتسب مكانة عالمية ليس بوصفه طبيبًا وإنما بفلسفته الأخلاقية العالية... لقد كان ألبرت شفايتزر واحدًا من القلة المبدعة .. لذلك لم يبق محصورًا باهتمام وظيفي مهني وإنما كان مهمومًا بالقضايا الإنسانية الكبرى فنال إعجاب المفكرين حتى إن المفكر الفرنسي أندريه مالرو رغم تشاؤمه الحاد فإنه اعتبر ظهور أمثال شفايتزر علامة على حيوية الحضارة فهو يَعُدُّه من :(العبقريات الخلاقة..) ويقول :( شخصية ألبرت شفايتزر المتعددة الجوانب قلما نصادفها). إن الذي كتب هذا هو نفسه صاحب كتاب (الوضع الإنساني) الموغل في تشاؤمه وقد كتب عنه جان برتليمي في كتابه (بحثٌ في علم الجمال) يقول :(يشعر مالرو بسخف الحياة البشرية لدرجة يصل فيها شعوره إلى حد الضجر) لكن مالرو يعتبر أن ظهور أمثال شفايتزر يمثل بصيصًا من الأمل في الإفاقة البشرية والارتقاء إلى المستوى الأخلاقي الذي يليق بالإنسانية.. لقد تطورت الإنسانية تطورًا هائلاً في العلوم والفنون والنُّظُم والتقنيات ولكنها مازالت تعيش في أدنى دركات التخلف من الناحية الأخلاقية فحين تقارن بين القدرات التي توفرت ومستوى التفكير والأخلاق عند القطعان البشرية تظهر المفارقة الصارخة ويخيَّل إليك أن الذي طوَّر هذه القدرات هو كائنٌ آخر مختلف عن الناس الذين يستخدمونها.. لقد كان الطبيب الفيلسوف شفايتزر من القلة النادرة من ذوي الحس الأخلاقي الرفيع حيث عاش برؤية إنسانية فريدة غير منحازة ينشد الخير للجميع ويصرخ بكل ما أوتي من قوة الفكر ودقة العلم وبلاغة الأداء ضد العدوان والحروب والتناحر وهو طبيبٌ ألماني من أصل فرنسي أشقاه التأمل في المعضلات البشرية فراح يبحث عن مصدر الخلل ويحاول تشخيص العلل ويجتهد في وصف العلاج فصار طبيبا للحضارة بأجمعها بدلاً من أن يكتفي بطب الأفراد إنه فيلسوف الحضارة الأوفر احترامًا عالميًّا.. لقد وجَدَ أن الخلل ناشئٌ عن اهتمام الناس ببناء قدراتهم وتطوير وسائلهم والاندفاع مع رغباتهم والاستغراق في مصالحهم وإهمال الجانب الأخلاقي الذي هو المزية الكبرى التي تميز الإنسان عن بقية المخلوقات. لقد شَخَّص خلَل الحضارة بأنه خللٌ أخلاقيٌّ فلقد امتلكتْ الإنسانيةُ معارف دقيقة وأفكارًا خلاقة وتقنيات مذهلة وأقامت مؤسسات فاعلة لكنها لم تملك الأخلاق العالية التي تتلاءم مع هذه الإمكانات الهائلة، إن الشعوب والأمم قد تنافست في اتجاه بناء القدرات من أجل التفوق والتغلُّب والهيمنة وليس من أجل التفاهم والتآخي والتقارب والمشاركة فحدث هذا الخلل الفظيع الذي تعاني منه الإنسانية في كل مكان.. إن الطبيب الفيلسوف شفايتزر يؤمن بعظمة الإنجازات المادية لكنه يدرك أن هذه الإنجازات لابد أن تكون مصحوبة بالعظمة الأخلاقية لتكون قرارات الإنسان وسلوكه واتجاهات نشاطه متسمة بالحكمة والعدل والرحمة والشفقة والتآخي والمشاركة فهو في كتابه (فلسفة الحضارة) يقول :(إني بوصفي طبيبًا وجراحًا عندي من الروح العصرية ما يجعلني قادرًا على تقدير روعة ما بلغه هذا العصر من تقدم في النواحي الصناعية والمادية لكن برغم هذا كله فإني على يقين من أن العناصر الجمالية والتاريخية والاتساع الرائع في معارفنا المادية وقوانا.. كل هذا لايُكَوِّن جوهر الحضارة وإنما يتوقف هذا الجوهر على الاستعدادات العقلية عند الأفراد والأمم وما عدا هذا فليس إلا ظروفًا مصاحبة للحضارة لاشأن لها بجوهرها.. إن الأعمال المبتكرة والفنية والعقلية والمادية لاتكشف عن آثارها الكاملة الحقيقية إلا إذا استندت الحضارة في بقائها ونمائها إلى استعداد نفسي يكون أخلاقيًّا حقًّا).. إن التحضُّر الحقيقي لايتحقق بامتلاك القوة وبناء القدرة وتحصيل المعرفة وإنما يتحقق بكبح غرائز الأنانية والاستئثار والعدوانية والحقد والتسلط والجشع.. وتجاوز ذلك والارتقاء إلى مستوى الإيثار والتآخي والعدل والرحمة والشفقة والمساواة.. إن الذكاء والمعرفة والمهارة يمكن استخدامها للخير ويمكن استخدامها للشر، وكذلك كل القدرات والإمكانات التي يبنيها الإنسان وتمتلكها الأمم فليست الحضارة هي امتلاك القوة والتغلب على الأمم الأخرى وإنما الحضارة هي إرادة الخير لكل الناس والاسهام الفكري والعملي في تجسيد هذه الإرادة في واقع الحياة الإنسانية.. إن شفايتزر مقتنعٌ تمام الاقتناع بأن إنقاذ الإنسانية وإنقاذ الحضارة لن يتحققا إلا بالارتقاء الأخلاقي لكل الشعوب والأمم فيقول :(إن النظرة الأخلاقية إلى الحضارة وإن جعلتني كأني غريب وسط الحياة العقلية في هذا العصر فإني أعلنها بوضوح ودون تردد أننا لن نفلح في إعادة بناء حضارتنا على أساس ثابت وطيد إلا إذا تخلصنا نهائيًّا من الفكرة السطحية الساذجة فيها ثم نأخذ من جديد بالنظرة الأخلاقية التي سادت في القرن الثامن عشر).. إن الناس مندفعون تلقائيًّا لتحقيق مصالحهم وتحسين أوضاعهم واكتساب الاحترام والأهمية بين أقرانهم وكذلك الشعوب والدول والأمم لذلك يتحقق التقدم في العلوم والتقنيات وبناء القدرات بدوافع طبيعية أصيلة تلقائية أما بناء الأخلاق وتوطيدها وجَعْلها سلوكا تلقائيًّا للأفراد والأمم فإنه من أصعب المهام ولا يمكن أن يتحقق تلقائيًّا فهو مضادٌّ لطبيعة الإنسان الأنانية واندفاعها التلقائي إلى الصراع ورغبتها الجارفة في الهيمنة والتميُّز وتأكيد الأهمية.. إن الإنسانية كلها تعاني من خلل أخلاقي فظيع ومُريع فالإنسان مندفعٌ بطبيعته للتفرد والتميز والمنافسة والصراع والاستئثار وحب التغلب وتأكيد الذات.. إن هذه الطبيعة مندفعة تلقائيًّا بغزارة وانتظام على مستوى الأفراد والجماعات والأحزاب والتنظيمات والشعوب والثقافات والأمم أما الكوابح الأخلاقية فهي مضادة للطبيعة البشرية إنها تأتي لاحقًا لكبح جماحها التلقائي لذلك فإنها لاتتحقق تلقائيًّا وإنما تتطلب إجماعًا عالميًّا على ضرورة إصلاح الشأن الإنساني أخلاقيًّا ثم حَشْد كل الإمكانات الممكنة من أجل تغيير منظومات القيم المحلية وغرس منظومة قيم إنسانية عالمية وإشاعة التهذيب وغرس التآخي والتنفير من العدوان واحتقار العنف وتغيير مفهوم البطولة لتصير في خدمة إنماء الحياة بدلاً من إزهاقها وفي حَشْد عوامل التآخي بدلاً من إلهاب عوامل التنافر.. إن المعضلة الإنسانية الكبرى هي أن الإنسان كائنٌ تلقائي فهو لايولد بعقل ناجز ولا بأخلاق إنسانية راقية وإنما يولد بقابليات فارغة مفتوحة قابلة للتشكل بكل ما تمور به الثقافات المتصادمة من سوءات فالناس يولدون ببيئات ثقافية متباينة فتتأدلج قابليات المواليد في كل مجتمع تأدلجًا مغايرًا لكل الآخرين في البيئات المختلفة ومعلوم أن البيئات تتبارى في تضخيم ذاتها وتحقير غيرها وينشأ كل فرد في كل بيئة مملوءًا بأوهام امتياز الذات ويعيش منتشيًا بهذه الأوهام فتتضاءل في نفسه قيمة كل المغايرين بمقدار تعاظم أوهام الامتياز وبسبب هذا التناقض الحاد في الرؤى وفي القيم يصبح احتقار المغايرين تلقائيًّا بأحكام مسبقة راسخة وتصير حياة كل الأطراف رهنًا بإشعال أي حريق بواسطة أي فرد مأفون العقل، ومشحون بالحقد لكي تلتهب الحرائق في كل مكان وتصبح حياة الناس أهون من حياة الحشرات.. إنها المأساة الإنسانية التي لم تستطع الإنسانية أن تتغلب عليها بل كلما سارت الأوضاع البشرية باتجاه الأنسنة اندلعت الحرائق العرقية أو الحدودية أو المذهبية أو الطائفية فقوَّضت كل أمل في التقارب والتآخي والعقلانية.. ولكن الدنيا لاتخلو من الرواد فمن وسط هذا الطوفان من الاستئثار والاندفاع الأعمى نحو التغالب يخرج الطبيب الشهير الفيلسوف البرت شفايتزر فيترك أوروبا وحياتها الباذخة ويقذف بنفسه في صحاري أفريقيا بدوافع أخلاقية وإنسانية وليس هذا هو المهم وإنما المهم أنه صاحب فكر حصيف مضيء فهو من أبرز فلاسفة الحضارة يقول في كتابه (فلسفة الحضارة) :(الكفاح من أجل الحياة شَغَلَنا عن التفكير في المُثُل العليا للحضارة)، إنه لايدعو إلى الزهد والتخلي عن الحياة وإنما ينادي بترشيد الحضارة فهو مع دعوته الملحة إلى الأخلاق كان في قمة العقلانية فهو الذي يقول :(إن المذهب العقلي حركة فكرية وظاهرة ضرورية لكل حياة روحية سوية.. إن كل أشكال التقدم الحقيقي في العالم يتضح بعد التمحيص الدقيق بأن مردها هو العقلانية وهذا المبدأ الذي ترسَّخ والذي يستند إلى اعتماد الفكر في أفكارنا للعالم هو المبدأ الصحيح لكل زمن). لقد جَمَعَ هذا الفيلسوف الطبيب بين العقلانية المضيئة وبين التدين العميق المتسامح لقد كان يحمل احترامًا عظيما للحياة الإنسانية فاندفع يبذل الخير والعون بسخاء وإيثار وحميمية.. لقد كان البرت شفايتزر يعمل بدافع داخلي عميق ويتحمل المشاق في سبيل ما يؤمن به إنه مدفوعٌ باهتمام تلقائي قوي مستغرق فهو يؤكد :(أن شيئًا ذا قيمة لم يتحقق في هذه الدنيا إلا بالحماسة والتضحية بالنفس)، وهذا يؤكد نظرية عبقرية الاهتمام التلقائي بأن مواهب الإنسان وطاقاته الفكرية والوجدانية لاتحركها معلومات يضطر لدراستها وإنما تحركه اهتماماته التلقائية الفوارة.. إن الطبيب الفيلسوف البرت شفايتزر شخصية عالمية ليس بوصفه طبيبًا بل بوصفه فيلسوفًا فريدًا في فلسفته وفي اتجاهه وفي سلوكه وفي تضحياته وفي معارفه الموسوعية المتنوعة والعميقة وقد قام الدكتور عبدالرحمن بدوي بترجمة كتابه (فلسفة الحضارة) وهو كتابٌ عميق وكثيف المضمون ومركز ومهم فهو يرى أن التحضُّر ليس هو الازدهار الاقتصادي ولا التقدم العلمي ولا التطور التقني وإنما هو التقدم الأخلاقي :(فالحضارة في جوهرها أخلاقية .. أعني بأن مشكلة الحضارة هي مشكلة أخلاقية) وما حَصَل من اقتتال دموي فظيع في يوغسولافيا بعد انفراط الاتحاد اليوغوسلافي يؤكد ذلك تمام التأكيد بل إن أحداثًا كثيرة تتكرر في كل البلدان ويشهدها كل العالم تؤكد أن الأخلاق هي جوهر الحضارة أما القدرات من دون ضوابط أخلاقية كابحة فهي تُمَكِّن من التسلط والعنف والاقتتال.. إن الأخلاق الرفيعة هي التي تميز الإنسان فامتلاك القدرة من غير أن تكون مصحوبة بالالتزام الأخلاقي قد تكون قدرة عدوانية أو مدمِّرة.. إن الجانب الأخلاقي مازال مهملاً في الكثير من المجتمعات وهذا الإهمال من أشنع أنواع الخلل على المستويات المحلية كما على المستوى العالمي.. يرى شفايتزر بأن على العالم أن يضع استراتيجية تستبدل الحرب بالسِّلم والتنافر بالتعاون والتنافس بالتكافل.. إن على الإنسانية أن تعيد تأسيس الحضارة على أخلاق العدل والتفاهم والقانون فالعلوم والتقنيات هي وسائل لتحقيق الغايات فهو يقول :(إن الحضارة معناها بذل المجهود بوصفنا كائنات إنسانية من أجل تكميل النوع الإنساني وتحقيق التقدم.. وهذا الموقف العقلي يتضمن استعدادًا مزدوجًا : فيجب أولاً أن نكون متأهبين للعمل إيجابًا في العالم والحياة.. ويجب ثانيًا أن نكون أخلاقيين) إنها رؤية إنسانية عظيمة لكنها مازالت رؤية مثالية هي أبعد ما تكون عن الواقع البشري المضطرب سياسيًّا والمتدهور أخلاقيًّا.. ويقول شفايتزر : (إن الحضارة تنشأ حينما يستلهم الناس عزمًا واضحًا صادقًا على بلوغ التقدم ويكرسون أنفسهم تبعًا لذلك لخدمة الحياة وخدمة العالم .. وفي الأخلاق وحدها نجد الدافع القوي إلى مثل هذا العمل فنتجاوز حدود وجودنا)، فالإنجازات الإنسانية الكبرى لايمكن أن تتحقق بواسطة الجهود الفردية المبعثرة وإنما تتحقق بفاعلية تيار عام مندفع.. ويقول :(إن مستقبل الحضارة ليَتوقف على تغلبنا على فقدان المعنى واليأس.. وعلى بلوغ حالة من الأمل النضير والعزم الفتي ولن يكون في وسعنا ذلك إلا إذا اكتشفتْ غالبيةُ الناس لأنفسهم موقفًا أخلاقيًّا عميقا راسخًا يؤكد الدنيا والحياة عن طريق نظرية في الكون مقنعة وقائمة على الفكر معًا). إن شفايتزر في هذا الكتاب ينتقد فلسفة شوبنهاور المتشائمة كما ينتقد فلسفة نيتشة المهتاجة، ويستعرض مواقف الفلاسفة من الإنسان والحضارة والأخلاق والمستقبل ويحدِّد موقفه من رؤاهم المختلفة ويكرر التأكيد أن الأخلاق هي جوهر الحضارة فامتلاك الدول للقوة يتيح لها الغطرسة وامتلاك الإنسان للقدرة قد يحيله إلى طاقة شريرة مدمِّرة.. ويقول شفايتزر :(والفكرة الأساسية في نظريتي في الكون هي أن علاقتي بوجودي وبالعالم الموضوعي إنما تتحدَّد بتمجيدي للحياة .. وما يحدِّد صلتي بوجودي وبالوجود الذي ألقاه في العالم ليس أي نوع من أنواع النفوذ بل هي إرادتي للحياة التي نَمَّتْ قوة التأمل في الذات وفي العالم)، إنها إرادة الحياة السوية القائمة على التفكير العميق والمعرفة الممحصة والتعايش مع المخالفين وتبادل الاحترام مع الآخرين.. إن هذا الطبيب الفيلسوف نموذج للريادة الخارقة فالأصل في التخصص التعليمي مهما كان مستواه ومجاله أنه تأهيلٌ لعمل مهني سواء أكان تخصُّصاً في أعمال تطبيقية كالطب والهندسة أم في أي مجال كالتدريس الجامعي فمهمة الجامعات حتى في الدراسات العليا هي إعداد المهنيين في مختلف التخصصات والمستويات أما الأفراد المبدعون الذين يخترقون أطواق التخصص فهم خارج نطاق المعايير التعليمية فالأعمال الإبداعية والريادية هي صانعة التغيير نحو الأفضل على امتداد التاريخ وحتى تعميم التعليم نفسه هو من الأفكار الريادية الخارقة ومهما تطورت الحضارة فإنها تبقى مدينة للاضاءات الفردية الريادية والإبداعية أما الكثرة من خريجي الجامعات في كل العالم فهم عالة على الرواد والمبدعين إنهم يرددون ما اكتشفه وأبدعه الرواد.. إن شخصية الإنسان وتوجيه طاقته ومحاور اهتمامه ونزوعاته العميقة لاتحدِّدها دراسةٌ اتَّجه إليها مضطرًّا كوسيلة مهنية ومصدر أمان معيشي وإنما تحدِّدها بنيته الذهنية والنفسية والوجدانية التي تتشكل تلقائيًّا في الطفولة وتتعزز طوال عمره..

مشاركة :