الريادات الخارقة أضاءت مسيرة الحضارة - إبراهيم البليهي

  • 12/7/2014
  • 00:00
  • 30
  • 0
  • 0
news-picture

المعروف أن الأطباء لا يتلقون تدريبًا على البحث والتنظير وإنما ينحصر تدريبهم على الأداء المهني التطبيقي العملي أما الذين اخترقوا هذا الحاجز فغيروا اتجاه النشاط وقدَّموا نظريات متجاوزة في أي مجال فإن هذا يحصل بمحض الاهتمام التلقائي لذلك تتنوع مجالات إسهامهم بتنوع اهتماماتهم. فرويد انصرف عن ممارسة الطب العضوي وغرق في تأمل النفس البشرية واكتشف اللاوعي وأسس علم التحليل النفسي وهو من العلوم الإنسانية التي يجري تدريسها في كليات الآداب وليس في كليات الطب أو يجري تدريسها في مجالات متنوعة وضمن تخصصات مختلفة إن كل المهتمين يدركون الامتداد الواسع والعميق لنظريات فرويد في كل المجالات الإنسانية وكما يقول المفكر الكبير علي الوردي: (نظرية العقل الباطن قد أحدثت انقلابًا عظيمًا في تاريخ الفكر البشري.. فرويد قد أسدى للبشرية خدمة لا تُقَدَّر بابتداعه لنظرية اللاشعور) لذلك وضَعَه الدكتور مايكل هارث في المرتبة (32) بين الأكثر تأثيرًا في مسيرة الحضارة الإنسانية وقد حقق ذلك بمحض اهتمامه القوي المستغرق إن مئات الكتب وآلاف الدراسات قد صدرت عن فرويد مبدع التحليل النفسي وليس عن فرويد الطبيب. ولأنه لم يُخَصَّص في نوبل جائزة لعلم النفس فإن فرويد كان مرشَّحًا للجائزة ليس في مجال الطب وإنما في مجال الأدب وكان الكثيرون ومازالوا يعتبرونه يستحق الفوز بهذه الجائزة. البنت الصغرى لفرويد عالمة النفس الشهيرة (آنا فرويد) لم تلتحق بأية جامعة وإنما اعتمدت على نفسها في التعلُّم والتحقق فقد كانت مندفعة للتعلُّم تلقائيًّا منذ وقت مبكر من حياتها وقد صارت معدودة من علماء النفس الأكثر شهرة فأُغدقتْ عليها شهادات الدكتوراه الفخرية من عدد من الجامعات الأمريكية وغيرها وقد قيل عنها بأنها: (كانت قارئة نهمة وتعلمت عدة لغات.. لم تتزوج لأنها اعتبرتْ أن مهمتها الحفاظ على التراث الفكري والعلمي لأبيها وتطويره). كارل غوستاف يونج لا يجري التعريف به بأنه طبيب وإنما يجري التعريف به بأنه: (عالم النفس الكبير وأحد أبرز أعضاء المجموعة القليلة من مؤسسي علم النفس الحديث والمؤسس الأول لمدرسة علم النفلس التحليلي وصاحب التأثير الواسع والعميق في علوم الانثروبولوجيا والتاريخ والنقد الأدبي.. وكانت فكرة اللاوعي الجمعي ودور الأسطورة في تكوينه وتحولها إلى أنماط تؤطر الثقافة الأسطورية هي ما منحت ليونج مكانة كبرى في الثقافة المعاصرة ومنحته مكانا متقدمًا بين المفكرين الذين أسسوا الفلسفة البنيوية) كان اهتمامه التلقائي مستغرقًا في محاولة فهم النفس الإنسانية وعلاقة الفرد بالمجتمع ومحاولة فهم دوافع السلوك وقد تأثَّر تأثُّرًا عميقًا بفرويد لكنه انفصل عنه وأسس اتجاهًا جديدًا في التحليل النفسي وله استبصارات عميقة ورائدة عن اللاوعي الجمعي وأنماط النفس البشرية وله بصيرة نافذة في إدراك تلقائية العمليات الإبداعية فلا أجد أصدق ولا أروع من قوله: ( الفن دافعٌ داخلي يقبض على ناصية الإنسان ويجعل منه آلته) وهذا يؤكد خصوبة التعلُّم اندفاعًا وعُقم التعلُّم اضطرارًا. ألفريد أدلر هو الآخر تخرج طبيبًا وتخصص في طب العيون لكن اهتمامه التلقائي لم يكن موجَّهًا لعلاج الأمراض العضوية كطبيب تطبيقي وإنما كان مهمومًا بعمق في المجال النظري فقد كان يهمه أن يعرف الطبيعة البشرية وما تنطوي عليه من دوافع تحرِّك الإنسان نحو النشاط والفعل وقد تأثر بفرويد لكنه وجَدَ أن شعور الإنسان بنقائصه وأن لهفته إلى تجاوز هذه النقائص واندفاعه لاكتساب الأهمية هي العامل الأعمق والأكبر للسلوك الإنساني لقد ركَّز فرويد على مكبوتات اللاوعي وأكد على الطاقة الجنسية وإعلاءاتها المثمرة إبداعيًّا أما يونج فقد وسَّع المجال فأبصر عوامل أخرى مؤثرة هي اللاوعي الجمعي كما أكد على الأنماط النفسية وله استبصارات رائعة حول الطبيعة التلقائية الإبداعية وأما أدلر فقد ركَّز على علم النفس الفردي إلى درجة أنه بتأكيده على الفردية أثَّر على السياسة الأمريكية وأسهم في تقويض السياسة العنصرية وتحرير الثقافة الأمريكية من وباء التعصب وأسهم في نشر التسامح والانفتاح على الآخر. فيكور فرانكل هو الآخر طبيب دفَعَه الاهتمام التلقائي والمعاناة الشخصية ومعايشة السجناء المهدَّدين بالإبادة في المعسكرات النازية إلى أن يكتشف أن الإنسان في ظروف المعاناة يستطيع الصمود إذا كان يؤمن بقضية أو قيم يعيش من أجلها حيث يجد لحياته معنى يستحق النضال وهو بهذا أيضا يؤكد أن حياة الإنسان مرهونة باهتمامه التلقائي. يعرف المهتمون بأن جان بياجيه من أعظم الرواد في علم النفس وفي التربية مع أنه متخصِّص في علم الأحياء لكنه تخلى عن تخصصه وركَّز اهتمامه على الجانب المعرفي لدى الإنسان وكما يقول د حسن عيسى: (هذا الرجل قضى ستين عامًا من عمره يحاول استكشاف الحياة العقلية للطفل) لقد تحوَّل عن مجال تخصصه إلى مجال كان أنفع وأعظم ففي دراسة دقيقة وموسعة عنه للدكتور محمد وقيدي يقول: (لقد كانت مسألة المعرفة هي المسألة الأساسية التي شغَلَتْ فكر بياجيه) ولكنه من أجل هذا المحور الأساسي أسهم في رؤى ريادية في علم النفس والابستمولوجيا والفلسفة والتربية. مؤسِّس الاتجاه السلوكي في علم النفس جون برودوس واطسون متخصِّص دراسيًّا في علم الحيوان لكه كما يقول جاك كوسنييه في كتابه (مقدمات في علم النفس) قد أحدث ثورة في علم النفس وقد وُصف اسهامه بأنه من الانقطاعات المعرفية الثورية ومع أن المذهب السلوكي فَقَدَ بريقه المثير إلا أنه يبقى إسهامًا عظميًا.. ومثلما أن واطسون جاء إلى علم النفس من علم الحيوان فإن إيفان بتروفيتش بافلوف قد جاء من الفيزيولوجيا إلى علم النفس وأثَّر فيه تأثيرًا عميقًا وشاملاً ولو تتبعنا كل الرواد الذين أسهموا في نظريات علم النفس وعلم التربية لوجدناهم قد جاءوا من تخصصات مختلفة ومتنوعة. عالم التربية العالمي باولو فريري متخصِّص دراسيًّا في القانون ومارس المحاماة لكن اهتمامه بأمته ووطنه البرازيل استحوذ على اهتمامه فانشغل بالقضايا العامة فاهتمَّ بالتعرف على الطبيعة البشرية من أجل الاسهام في الارتقاء بوعي المجتمع البرازيلي وانتشاله من الانتظام في ثقافة التخلف وجرى نفيه أيام حكم العسكر وبقي سنوات طويلة منفيًّا ثم عاد إلى وطنه مع التحول الديمقراطي. وما قيل عن الرواد المذكورين يقال عن آخرين أسهموا في تكوين نظريات علم النفس وعلم التربية بمحض اهتمامهم مثل بينيه وفالون وسوليفان وفرانز جال وفوندت وفخنر ولورنز وماينونج وجالتون وبرجسون وياسبرز ووليم جيمس وجون ديوي ومونتسوري وبستالوتزي وغيرهم.. وإذا تآلف الناس مع أي وضع فإنهم يغفلون عن العوامل التي أنتجته فملايين الطلاب في المدارس والمعاهد والجامعات في مختلف بلدان العالم لم يتعمقوا في دراسة تاريخ العلوم والفنون وإنما يتلقون الثمار الجاهزة كمعارف تقريرية فينظرون إليها وكأنها حقائق أزلية ومن النادر أن يتعرفوا تعرُّفًا عميقًا بالرواد الذين كافحوا ببسالة وواجهوا التيارات السائدة وحرروا الإنسانية بإلحاح وتتابع من واقع كليل إلى واقع جليل ووضعوا أقدام البشرية على مسارات الانفتاح على المستقبل والوعد بالمزيد من الارتقاء. العلوم تبدأ بأفكار وتتطور بالتحقق من هذه الأفكار وبما يطرأ من أفكار جديدة ينشغل بها الباحثون نقاشًا وتوليدًا إن المهتمين يعلمون بأن الفيلسوف آدم سميث هو منشئ علم الاقتصاد وقد جاء تأسيس هذا العلم في كتابه (ثروة الأمم) فإذا كان جون لوك هو فيلسوف الليبرالية السياسية فإن آدم سميث هو فيلسوف الليبرالية الاقتصادية إن أفكار هذا الفيلسوف العظيم مازالت متجددة التأثير ومازالت المؤلفات عنه تتوالى فالرواد يبقون أحياء وتتجدد ذكراهم بامتداد الزمن لذلك وَضَعَه الدكتور مايكل هارت في المرتبة (37) بين العظماء الأوائل المائة الأكثر تأثيرًا في مسيرة الحضارة الإنسانية فهو يوصف بأنه: أبو الاقتصاد. أما الرجل الثاني في إنشاء علم الاقتصاد فهو ديفد ريكاردو فقد واصل البناء في هذا العلم الذي أنشاه آدم سميث وهو رجل عصامي لم يلتحق بأية جامعة وإنما علَّم نفسه وأسهم في تأسيس علم الاقتصاد وتوسيع آفاقه.. أما الرجل الثالث في علم الاقتصاد فهو القس توماس مالتوس ونظريته عن المفارقة بين نمو الثروة ونمو السكان وقد كان إسهامه ذا تأثير شديد في الفكر الاقتصادي وفي مجالات أخرى إلى درجة أن تأثيره قد امتد إلى علم الأحياء وكان ذا تأثير موقظ لداروين لذلك عدَّه مايكل هارت بين المائة الأوائل ويأتي ترتيبه (77) بين العظماء الأوائل المائة الأكثر تأثيرًا على الفكر الإنساني. إن تعميم التعليم بشهاداته وتخصصاته طارئٌ على حياتنا لذلك لم نُحسن التعامل معه فصار مجموعة من القيود والرتابة والامتثال وإرباك القابليات بدلاً من أن يصير حافزًا على التفتح والتفرد والإبداع وهنا نذكر بأن عالم النفس دانييل كانيمان قد حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد وليس في تخصصه في علم النفس.. وعالم الاقتصاد الشهير فريدريك هايك تخصَّص دراسيًّا في القانون لكنه باهتمامه التلقائي القوي تحول إلى مجال الاقتصاد فنال فيه جائزة نوبل وصار صاحب اتجاه فكري عُرف به. رغم أن البشر مارسوا إدارة الشؤون العامة والخاصة منذ أن صاروا يحيون جماعات أما علم الإدارة فهو حديث النشأة وقد جاء تأسيس هذا العلم على يد مراقب العمال العصامي فريدريك تايلور فقد مارس الإدارة بمصانع هنري فورد وانتهى إلى التنظير للإدارة في كتابه (الإدارة العلمية) فتايلور هو المؤسس الحقيقي لعلم الإدارة وهو رجلٌ عصامي اكتفى من التعليم النظامي بما دون الجامعة.. أما المنظِّر الثاني في علم الإدارة فهو بيتر دراكر فقد هَجَر تخصصه واهتم بعلم الإدارة فصار أكبر المنظرين في هذا المجال وهو يؤكد على فاعلية الاهتمام التلقائي القوي فيقول: (إن أي إنجاز مهم هو نتيجة التعلق الشديد بالمهمة) فالتخصص الحقيقي لأي إنسان هو المجال الذي يتعلق به ويستغرق اهتمامه.. إذ إن بيتر دراكر يؤكد أن الرائد في أي مجال لا يُصنع وإنما يَصنع نفسه فالقيادة قدرةٌ استثنائية لذلك قيل عن جاك ويلش بأنه: (أعظم مدير في العالم على قيد الحياة) وهو متخصص في الكيمياء وليس في الإدارة. إن أبرز قادة الأمم في القرن العشرين كانوا من الذين اكتفوا من التعليم بما دون المستوى الجامعي فتشرشل ليس جامعيًّا ولم يقتصر إبداعه في القيادة والسياسة وإنما نال جائزة نوبل في الأدب وقد وضَعَه مايكل هارت ضمن المائة الثانية للأكثر تأثيرًا في الحياة الإنسانية كما أن رئيس الحكومة البريطانية جون ميجور لم يتجاوز في الدراسة المرحلة الثانوية وكذلك تاتشر نفسها كانت متخصصة في الكيمياء وهو مجالٌ بعيدٌ كل البُعْد عن السياسة وليس بين رؤساء الحكومات البريطانية المتعاقبة من كان متخصصًّا في العلوم السياسية وكذلك الوزراء فأرنست بيفن لم يتلق سوى تعليم بسيط لكنه علَّم نفسه وكافح حتى صار وزيرًا للخارجية البريطانية وقد كان في البداية عاملاً من عمال المناجم ولكنه صار من أشهر السياسيين البريطانيين وكان خطيبًا مفوَّها يَحسب له خصومه ألف حساب وبقي تأثيره قويًّا ومستمرًّا على حزب العمال البريطاني ولم تكن هذه حالة نادرة وإنما يتكرر بروز العصاميين في المناصب العليا فالوزيرة البريطانية مارجريت بوندفيلد كانت عاملة في متجر ولكنها بالذكاء والكفاح وصلت إلى منصب وزيرة رغم أن وصول النساء إلى المناصب العليا يواجه عقبات حتى في الغرب لكنها تمكنت من تجاوز هذه العقبات أما الوزيرة ما رجريت بيكيت فقد دَرَسَتْ هندسة التعدين وهو مجالٌ بعيدٌ كل البُعْد عن المجال السياسي لكنها بالعصامية والطموح استطاعت أن تصل إلى هذه المكانة. إن قائد الثورة البلشفية الذي ألهب القرن العشرين لينين تم طرده من الجامعة بعد أشهر من التحاقه فيها ولم يعد إلى الدراسة المنتظمة إطلاقًا وقد كان تأثيره على مسيرة الحضارة تأثيرًا هائلاً إلى درجة أن مايكل هارت جَعَل ترتيبه (15) بين المائة الأوائل الأكثر تأثيرًا في التاريخ البشري والزعيم السوفييتي جوزيف ستالين لم يتجاوز المرحلة الثانوية ومنافسه تروتسكي توقف عن التعليم عند المرحلة الثانوية والزعيم الصيني ماوتسي تونغ الذي أحدث في الصين وفي العالم تغييرات كبرى ووضعه مايكل هارت في المرتبة (20) بين المائة الأوائل الأكثر تأثيرًا في التاريخ البشري إنه لم ينتظم انتظامًا حقيقيًّا في أي تعليم وإنما اعتمد على نفسه مبكرًا وكان يلتهم الكتب الفكرية التهامًا وحصل على شهادة معهد معلمين تعادل الإعدادية من أجل أن يجد عملاً وبعد موت ماوتسي تونغ آلتْ السلطة إلى القائد المدهش دنج اكسياو بنج وهو عصامي علَّم نفسه فقاد الصين إلى الانفتاح وَوَضَعَها على مسار الازدهار فنهضةُ الصين مدينةٌ لهذا القائد الفذ وهو من العصاميين الذين علَّموا أنفسهم وكذلك الزعيم جوزيف تيتو الذي وحَّد يوغسلافيا وأسهم في تأسيس دول عدم الانحياز وهو عصامي قد اعتمد على نفسه فتوقف في دراسته مبكرًا فمثله يقود ولا يقاد. إنني أتحدث هنا عن قدرة التأثير وليس عن تقييم المواقف أخلاقيًّا فحين يُذكر قادة القرن العشرين لا بد أن يقفز اسم الزعيم الألماني أدولف هتلر إن ألمانيا من أرفع الأمم تعليمًا ولكن من قاع هذا المجتمع الزاخر بالمفكرين والعلماء والمبدعين وحاملي الشهادات الجامعية والشهادات العليا قفز هتلر الذي لا يحمل سوى شهادة في الرسم من معهد يعادل الإعدادية لكنه كان يتأجج حماسًا ووطنية واستطاع بحماسه الملتهب وقدرته الخطابية ومزاعمه المثيرة أن يكسب إعجاب الألمان بمن فيهم من العلماء والأدباء والمبدعين فاصطفوا خلفه وتمكنوا في بضع سنوات أن يعيدوا بناء ألمانيا صناعيا واقتصاديًّا وعسكريًّا بعد أن كانت مهدَّمة في الحرب العالمية الأولى فاتحد العالم ضد تلك القوة النامية المخيفة حتى هَزَمَها وبذلك أسدل الستار على قصة صعود فرد ملتهب من عامة الشعب لم ينل من التعليم سوى القليل لكنه كان يفهم الطبيعة البشرية ويجيد الإثارة فتسبب في أعنف وأشمل قتال عَرَفَتْه الإنسانية تمخض ذلك عن تدمير شامل وقَتْل مروِّع ولتأثيره المدمِّر على الحياة الإنسانية فقد وضَعَه مايكل هارت في المرتبة (35) بين المائة الأوائل الأكثر تأثيرًا. وحين عادت ألمانيا إلى المسار الديمقراطي بعد أن اتحد العالم ضدها من أجل كبح جماحها العدواني المخيف تعاقب على الحكم قيادات من مختلف الاتجاهات وكان من أبرزهم فيلي برانت وهو من الذين اكتفوا من الدراسة بما قبل المرحلة الجامعية لقد كان ناشطًا حرًّا فعمل في الصحافة وكان معارضًا لهتلر وللنازية ففر خارج ألمانيا حتى سقطت النازية.. عمل رئيسًا لبلدية برلين ثم وزيرًا للخارجية ثم رئيسًا للحكومة وكان من أرفع الشخصيات السياسة مكانة عالمية وأكثرهم قبولاً لدى الأطراف العالمية المتنازعة أثناء سعار الحرب الباردة وهي المزية التي أهَّلته للحصول على جائزة نوبل للسلام. إن فيلي برانت الذي علَّم نفسه ليس فقط شخصية قيادية ألمانية مهمة بل هو من ذوي المهمات العالمية فبالإضافة إلى دوره الكبير في تخفيف حدة التوتر في العالم واهتمامه بالسلام ودعوته إلى التسامح والتلاقي بين كل الاتجاهات لصالح الإنسانية كلها فإنه أيضا يستعان به في القضايا الدولية فبعد ابتعاده عن السياسة استعان به صندوق النقد الدولي لرئاسة لجنة عالمية لتقييم قضايا التنمية في العالم فأصدر مايعرف باسم (تقرير برانت) الذي وُصف بأنه أهم وثيقة. أحمد بن بلا تخلى عن مواصلة الدراسة وانخرط في النضال لتحرير الجزائر وبعد الاستقلال اختاره الثوار رئيسًا للجمهورية الجزائرية وهو ليس سياسيًّا فقط وإنما هو أيضا رجلٌ مثقف.. وحين بلغ التأزُّم في الجزائر أقصاه في الحرب الأهلية لم يجد الجزائريون أفضل من عبدالعزيز بوتفليقة لرئاسة البلاد وقيادتها نحو السلام فحقق نجاحًا عظيمًا يؤكد حكمته وحنكته وواقعيته وهو في الدراسة لم يتجاوز المرحلة الثانوية لكنه مثقف وحكيم. وليس وصول العصاميين إلى المناصب العليا حالة استثنائية أو نادرة بل يتكرر تألُّقهم في كل الأوطان الأوربية والأمريكية والعالمية فقبل بضع سنوات في القرن الحادي والعشرين كان يوشكا فيشر وزيرًا للخارجية الألمانية وهو بتعليم رسمي بسيط ولكنه باهتمامه التلقائي القوي المستغرق وبمواهبه صار شخصية قيادية مهمة في ألمانيا وفي الاتحاد الأوربي وله مكانة عالمية وحتى رئيسة الحكومة الألمانية ميركل ليست متخصصة في العلوم السياسية ولا في أي من العلوم الاجتماعية وإنما هي متخصصة في الفيزياء وهو مجال بعيد كل البُعْد عن مجال السياسة. أما الإنجاز الأعظم الذي بَهَرَ العالم فقد حققه في بولندا العامل العصامي ليخ فاليسا الذي ناضل طويلاً وبإلحاح عجيب وإصرار مذهل حتى أسقط الحكم الشيوعي في بولندا فمن خلال قيادته لحركة التضامن العمالية قاد عمليات تقويض الحكم الشيوعي الاستبدادي في بولندا وأدى ذلك في النهاية إلى انهيار المعسكر الشيوعي بكامل دوله وتلا ذلك تحول هذه الدول إلى النظام الديمقراطي الحر وكما يعلم المهتمون فإنه قد تم انتخاب ليخ فاليسا فصار أول رئيس منتخب شعبيًّا لبولندا إن الشهادات الدراسية أهون من أن تكون معيارًا لتقييم الرواد فهي تزكيةٌ لمن ينقادون وليس لمن يقودون. قد يكون مناسبًا أن أشير هنا إلى أن الأديب البولندي ريمونت قد نال جائزة نوبل في الأدب وهو من العصاميين الذين علَّموا أنفسهم فقد نجت قابلياته من التطويع والتدجين فاعتاد على التفكير الفردي الحر بدلاً من أن يعتاد على التفكير التقريري الامتثالي المقولَب.. حيث يعرف القارئ بأن البرازيل من كبريات دول العالم من حيث عدد السكان والمساحة والموارد الطبيعية وقد ظلت تعاني من تسلُّط العسكريين كما عانت من الفقر والتخلف وقد أدت مغامرات جنرلات السلطة إلى إغراقها في الديون ولكن مثلما ناضل العامل العصامي ليخ فاليسا ضد تسلط الحزب الماركسي الذي كان يتحكم في بولندا حتى أسقطه فإن العامل العصامي لويس إيناسيو لولا قد قاد البرازيل من الاستبداد إلى الديمقراطية ومن الغرق في الديون إلى الازدهار الاقتصادي فالقدرة القيادية لا تصنعها المذكرات المدرسية وإنما تتدفق من أعماق الإنسان تدفُّقًا تلقائيًّا: وعيًا ونشاطًا واهتمامًا وحكمة وبصيرة وفاعلية. حين يكون الحديث عن القادة العصاميين في القرن العشرين يأتي في المقدمة جاك مونييه وجاك ديلورز فقد عملا بنجاح عجيب في توحيد أوربا وهي مهمة استثنائية بالغة العظمة فالبلدان التي اشتعلت بينها الحروب خلال القرون اقتنعت بأن تتحد وكان جان مونييه هو قائد هذه المسيرة الباهرة الظافرة ثم من بعده يأتي دور جاك ديلورز وكلاهما اكتفى من التعليم بما دون الجامعة. القيادة ليست فقط في المجال السياسي ولكنها في المجال التنموي وابتكار المشروعات وخلق الاتجاهات وحين نتأمل أوضاع التنمية في العالم نجد أفرادًا عصاميين كانوا خلف الكثير من التطورات الحضارية الكبرى فإسهام هنري مورد وتوماس أديسون وجون روكفلر وكارنجي وماريوت ومورجان وتوماس كوك ووالت ديزني وانجفار كامبراد (مؤسس إيكيا) التي بدأت في كشك وتحولت إلى امبراطورية تمتد إلى كل العالم.. فهؤلاء الرجال العصاميون كانت لهم إسهامات كبرى في التطور الحضاري وهو ما جعل الفيلسوف الأكبر برتراند راسل يقول: (إن أفرادًا من الناس يحددون طابع كل جيل من الأجيال فقد حدَّد طابع القرن السادس عشر كولمبس ولوثر وشارل الخامس.. وحدَّد طابع القرن السابع عشر جاليليو وديكارت.. وحدَّد طابع هذا العصر أديسون وروكفلر ولينين وصن يات صن) إن صن يات صن هو الطبيب الذي تخلى عن مهنة الطب وحرر الصين من ركام العصور ووجَّه انطلاقتها الباهرة لدخول الحضارة المعاصرة بفاعلية مدهشة. إن قادة الفكر والفعل والمبدعين والرواد والزعماء لا تكوِّنهم المذكرات المدرسية فتعميم التعليم لم يوجد لتخريج القادة والمبدعين وإنما تم إيجاده لتخريج المهنيين الذين استوجبت تغيرات الحياة توفيرهم إن المتميزين ينفرون من الانصياع القسري ويأنفون من الامتثال الأعمى وبمقدار الإحساس بالتفرد يكون النفور من التفكير التعليمي المقولَب إن هذه الحقيقة الأساسية يشهد لها ألف ألف دليل من تاريخ الحضارة وليست الشواهد التي تضمنها هذا المقال سوى أمثلة قليلة من فيض غامر.

مشاركة :