مارلين سلوم بانتظار أن تعود حركة الإنتاج إلى طبيعتها، وتستعيد الصناعة السينمائية عافيتها، لا نلتفت اليوم في اختياراتنا لما نشاهده في الصالات إلى تاريخ الإنتاج، أو تاريخ الصدور الأول للفيلم، بل نهتم بالنوعية والجودة، وما يمكن مشاهدته بمتعة والاستفادة منه، فكرياً، أو نفسياً. ومن الأفلام الجيدة التي تعرض في الصالات الإماراتية «ذا أبسايد»، أي الاتجاه صعوداً، الذي يعود تاريخ صناعته إلى عام 2017، لكن تأخر ظهوره في الصالات وعرضه الأول في بلد المنشأ أمريكا، حتى نهاية 2019. فيلم يأخذك إلى عالم القصص الحقيقية والواقعية، المفعمة بالمشاعر الإنسانية وبروح النكتة والكوميديا المحببة.«ذا أبسايد» فيلم مميز من حيث المضمون. يستند إلى القصة السينمائية التي كتبها إيريك توليدانو وأوليفيه نقّاش بعنوان «ذا إنتاتشيبلز»، أي «المنبوذون»، وقد استندا فيها إلى السيرة الذاتية «النَفَس الثاني»، التي كتبها فيليب بوتزو دي بورجو عن تجربته الشخصية. نقّاش، وتوليدانو، نجحا في تأليف وإخراج «المنبوذون» عام 2011 في فرنسا، واعتبر من أنجح الأفلام الفرنسية التي لاقت رواجاً في مختلف دول العالم، واستطاع أن يحقق صافي أرباح ما بين التكلفة الإنتاجية، وعائدات شباك التذاكر، يقدر بنحو 416 مليون دولار، بينما حققت النسخة الأمريكية منه «ذا أبسايد» التي أعاد كتابتها جون هارتميري، وأخرجها نيل بيرجر، صافي أرباح بقيمة تقريبية 90 مليون دولار. نيل بيرجر (مخرج «دايفرجنت») حمل التجربة الشخصية والنظرة الفلسفية لبطل السيرة الذاتية فيليب بوتزو إلى مستوى الأفلام الدرامية الكوميدية القريبة إلى قلب الجمهور، وعقله. ورغم أنها أقرب إلى التجربة الفلسفية المملوءة بالعِبر والدروس الحياتية، إلا أن بيرجر أجاد تقديمها بصورة جميلة مريحة للنظر فيها شيء من الرمزية بجانب الرسائل المباشرة. وفي إطار لا يخلو من الرومانسية، تجمع القصة النموذجين الأرستقراطي، وشبه المعدم، الثري والفقير، المثقف وخريج السجن العاطل عن العمل. تناقضات تجمع ولا تنفّر، فيلتقي البطلان عند نقطة واحدة، وهي حاجة كل منهما للآخر، فيكملان بعضهما بعضاً بدنياً، وفكرياً، واجتماعياً. أبيض وأسود تشاء الصدفة أن يأتي الفيلم بقصته الحقيقية في وقت عودة النعرة العنصرية من سباتها في أمريكا، وما أثاره مقتل الأمريكي أسمر البشرة جورج فلويد، من نقمة ليس داخل بلاد العم سام فقط، بل على مختلف مواقع التواصل حول العالم. ولا يقصد الفيلم التحدث عن التمييز العنصري بين أبناء البشرتين البيضاء، والسمراء، لكنه يلمح إليه في أكثر من موقف، باعتبار أن بطليه فيليب لاكاس (براين كرانستون)، وديل سكوت (كيفن هارت)، هما في القصة الحقيقية الثري فيليب بوتزو، والشاب الأسمر عبدول السيلو.فيليب يبحث عن مساعد يرافقه ويقيم لديه، أو بمعنى آخر، يبحث عن رجل يعوضه عن شلل يديه ورجليه، ويساعده في قضاء كل حاجاته، بجانب مرافقته في تنقلاته. والصدفة تقود ديل سكوت الخارج من السجن والساعي خلف توقيع رب عمل على أوراق تثبت جديته في البحث عن وظيفة، فيتمكن بالتالي من الحصول على المساعدة من الدولة، والانتقال إلى منزل لاكاس في توقيت اختبار المتقدمين للوظيفة نفسه. ومن بين القائمة الطويلة للساعين خلف هذه الفرصة، يصر فيليب على اختيار ديل سكوت، رغم طباع هذا الأخير الحادة، ورفضه لطبيعة المهمة الموكلة إليه. وأمام حاجة سكوت الملحّة إلى المال من أجل إعالة زوجته، وابنه المراهق، وأمام المبلغ المغري المعروض عليه، والإقامة الدائمة في شقة فيليب الفخمة، يوافق لتبدأ رحلة مغامرات تقلب حياة الرجلين رأساً على عقب. لاكاس كان استشارياً، مهمته إعادة إصلاح المؤسسات الفاشلة قبل تعرضه وزوجته لحادث أثناء ممارسة هوايتهما في التحليق بالمظلات، أدى إلى وفاتهان وإصابته بشلل تام، بحيث لم يعد قادراً على تحريك سوى رقبته، وكل عضلات وجهه. لذا رأى في ديل فرصة لاستعادة روح التحدي، من خلال إصلاح هذا الرجل الفاشل في كل شيء، حياته الزوجية، الالتزام والجدية في العمل، الاستقامة، والكفّ عن السرقة. مكمل ضرورينقطة التشويق في الفيلم ترتكز على العجز لدى الرجلين، حالة العجز البدني لدى أحدهما، تقابلها حالة عجز اجتماعي ومعيشي لدى الآخر، والتناقض بين شخصيتهما، وأسلوب حياتهما. سكوت يصعد إلى عالم الأثرياء والمثقفين المستعدين لدفع آلاف الدولارات من أجل شراء لوحة سريالية، وبعدما كان يسخر من الأوبرا، يصبح من عشاقها، ويتعلم كيف يتذوقها، وينسجم مع موسيقاها. في المقابل، ينزل لاكاس إلى عالم «العشوائيات» والانطلاق في الشوارع بلا قيود، والأكل في المطاعم الشعبية، ومشاهدة لاعبي الكرة على ناصية أحد الأحياء. نيكول كيدمان، شريكة في هذا العمل، لكنها ليست بطلته، حاضرة معظم الوقت، بشخصية «إيفون» مديرة أعمال فيليب. دورها جاء ثانوياً، لا يحتاج إلى جهد في الأداء، لكنه مكمل ضروري، ومنطقي للأحداث، خصوصاً أنها القائمة بإدارة أعمال الرجل الثري، والمخلصة له منذ سنوات، وتشكل خط الرومانسية في العمل، الذي يشتعل في الجزء الثاني من الفيلم. كيفن هارت (من أشهر أعماله «جومانجي: المستوى التالي» و«سنترال إنتليجنس») وبراين كرانستون (من أعماله «جودزيلا» وترشح للأوسكار 2015 عن دوره في «ترومبو») يشكلان ثنائياً جميلاً، يكملان بعضهما بعضاً في القصة والأداء. الأول يشكل نقطة الثقل في الجانب الكوميدي والتراجيدي، بينما الثاني يؤدي الدور الأصعب في التعبير بالوجه والملامح فقط، عن مختلف الحالات والصراعات النفسية، والتقلبات التي يمر بها. القصة حقيقية، والصداقة التي نشأت بعد كل هذه المعاناة قائمة بين الرجلين حتى اليوم، والدروس الحياتية التي استفادا منها، واستفاد منها الجمهور كثيرة؛ ولعل أجملها: تحرر الروح من قيود شكلية تكبّلها فتجعلها أسيرة المظاهر الاجتماعية والنظرة الطبقية، وادعاء بعض المثقفين فهمهم لألغاز ورموز لوحات يدفعون ثمنها باهظاً، بينما هي لا تحمل أي قيمة فنية حقيقية، فيرفعون من يشاؤون إلى مصاف المبدعين. كذلك يعطي الفيلم، بقصته وإخراجه، أملاً للباحثين عن فرص للنهوض من كبواتهم، والارتقاء بأنفسهم والتعلم من أخطائهم من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه، ولإنقاذ مستقبلهم، ومستقبل عائلاتهم. التجربة الصعبة تعيد صقل الرجلين فيولدان من جديد. marlynsalloum@gmail.com
مشاركة :