قليلة هي اللحظات التي تبلغ فيها الشاشة الصغيرة شأنًا عميق الأثر لجهة الحنين الذي تحركه في القلب والعين، من قبيل لحظة تتيح لك أن تتبع بشغف مثير مسار الدراماتورجي بالمعنى النبيل للمسرحي الكبير الطيب الصديقي. وهو أمر يجعلك تتبع بشكل سلس وعميق ذاكرة اﻹبداع المغربي لما يفوق 50 سنة من التواجد. والمسرحي الدكتور عبد الواحد عوزري مُعد برنامج «أنفاس مسرحية» الزاخر بالمعرفة والفن والنوستالجيا أحيا سنة فنية حميدة بتقديم هذا البرنامج الذي ينفض غبار النسيان عن صور وأسماء تتكلم بالعقل والجسد. وهذه الحلقة عن الطيب الصديقي تراهن على أنها لن تكون عابرة لسبب واضح وهو أنها زاخرة بالمعرفة والفن. كبُر الرجل وبلغ منتصف الثمانين، فظهر لنا في جلباب مغربي ﻻمع بلحيته وقد ابيضت بعد أن تعودنا على رؤيتها سوداء وكثيفة في مسرحياته وملاحمه التلفزيونية الكثيرة. حاورته سيدة المسرح المغربي والعربي ثريا جبران وزيرة الثقافة سابقاً كتلميذة لم تنس قط أفضاله عليها. في كلامهما مقدار فني نتحسر على فقدانه اﻵن ونستشعر مدى ما أضعناه حين لم يرسخه المسؤولون والمجتمع. فالفقرة التي تسيل وادي الصور الموثقة واللقطات الشاهدة، هذه الفقرة تقدم مغرباً متألقاً فنياً آخر نسيناه بسرعة أو أنسونا إياه كتب فيه الرجل صفحات بيضاء تجعلنا نسكن مشدوهين، طالما أن ما أبدعه ليس مما يمكن المرور عليه مرور الكرام. في البرنامج يجيب الطيب الصديقي أحياناً بفرنسية رائعة تقف عند النقطة والفاصلة كأي مسرحي ما زال يعرف تأثير الكلمة المنطوقة بالشكل المؤثر الواجب، ويجيب أحياناً أخرى بلغة عربية ممزوجة عن سابق معرفة بالفصيح الدارج ذاك الذي اكتشفه وطوره انطلاقاً من أبرز مسرح عفوي عالمي، تجسده ساحة «جامع الفنا» في مراكش بلازمة «الحلقة» التي أخذ من علاماتها وناسها وديكورها أجزاء مهمة من مسرحه، مسرح «الناس» ثم مسرح «لبساط»، ليجسد النظرية المعروفة الموسومة بالاحتفالية في المسرح. ولكن ليس قبل أن يكون تتلمذ وتعلم ونهل من المسرح الفرنسي الكلاسيكي. هذه اﻹزدواجية التكوينية تسترسل من شفتيه حين يهمس بمراحل حياته الفنية، وحين تتبدى هذه المراحل صوراً ولقطات من الأرشيف باﻷبيض واﻷسود أوﻻً في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي ثم بعد ذلك بالصور الملونة في العقود اللاحقة. صور تنقل لنا رأي أو عرفان كل من له شأن، سواء كان صغيراً أم كبيراً، في عالم المسرح والثقافة والسينما والإعلام. فالرجل خالط الجميع والجميع سجل وإياه شيئاً من إبداعه أو من صداقته الفنية. هل يمكن نسيان أن الكثير من الأسماء المعروفة في المسرح والتلفزيون والسينما في المغرب تتلمذ على يديه وأبرزهم مجموعة «ناس الغيوان» الغنائية الشهيرة بأعضائها الذين يقدمهم البرنامج في لحظة البدايات وهم يؤدون أدواراً في المسرحية الشهيرة «الحراز» عند نهاية الستينات، تماماً كبعض أعضاء الفرقة الغنائية الأخرى «جيل جيلالة». فمنه سيستلهمون تصور الغناء المغربي الصميم الذي سيُعرف بهم عالمياً. صور تنثال لتؤكد أن الفن له أهله وشيوخه وليس ضربة حظ وموهبة عفوية لا غير. «أنفاس مسرحية» بحلقته المخصصة للرجل، بعث رمز، وأحيا صورته التي سكنت المخيلة المغربية كفارس للخشبة لا يكل يهدي المتعة والمعرفة في وقت واحد، وها هي تدخل مجال الإنكار المخجل بفعل عصر حالي لا يعرف ما يفقد حين يشجع الفن الخفيف ولا ينهل من عمق فن الرواد مثل الطيب الصديقي
مشاركة :