الكشف عن خطة تركية لغزو اليونان لا يثير الاستغراب أوروبيا بقدر ما يضع القارة، وخاصة دولا مثل فرنسا وإيطاليا، أمام تحدي التحرك السريع لقطع الطريق أمام السهولة التي يتحرك بها الرئيس التركي في المتوسط. السكوت على نفوذ تركي عسكري في ليبيا يعني تشجيع أنقرة على التمادي في أنشطتها بالمتوسط، خاصة ما تعلق بفرض الأمر الواقع من خلال التنقيب عن النفط والغاز في مساحات مثار خلاف قانوني دوليا. تونس – لا يبدو أن الهوس التركي بالتوسع في البحر المتوسط قد يقف عند محاذير دولية أو إقليمية أو اتفاقيات تاريخية وسط تسريبات عن “خطة تركية لغزو اليونان”. وتستفيد أنقرة، التي باتت محور قلق لأوروبا والولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط، وحتى روسيا بالرغم من تحالفات مرحلة براغماتية، من حالة ارتباك في السياسة الدولية خاصة لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كشف موقع “نوردك مونيتور” السويدي أن تركيا وضعت خطة لغزو اليونان سميت باسم “جاقا بيه”، القائد العسكري التركي في القرن الحادي عشر، وذلك استنادا إلى وثائق سرية حصل عليها الموقع وقال إنها تعود لـ2014. وأشار الموقع إلى أنه تم العثور على هذه الوثائق في ملف قضية جزء من التحقيق في محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا في يوليو 2016، حيث وضعت عن طريق الخطأ في أحد ملفات القضية التي يعمل عليها المدعي العام التركي سيردار كوشكون، أحد الموالين لرجب طيب أردوغان. غزو اليونان تحمل الوثيقة المتعلقة بخطة غزو اليونان اسم بطل الحرب جاقا بيه، الرجل الذي قاد أول رحلة عسكرية تركية في بحر إيجه. وفرضت قوات بيه، الذي يطلق عليه اسم “الأب المؤسس للبحرية التركية”، سيطرتها على الجزر، بما في ذلك ليسفوس، ساموس، خيوس ورودس، وكذلك بعض الأراضي على طول ساحل بحر إيجه، من الإمبراطورية البيزنطية بين 1088 و1091. ومن الواضح أن تركيا، التي صعدت من هجمتها الدبلوماسية والإعلامية على اليونان بسبب معارضتها النفوذ التركي في ليبيا، وخاصة اتفاقية نوفمبر الماضي بين أردوغان ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج، كانت من ضمن خططها السيطرة على شرق المتوسط في 2014 وما قبلها، وأن الأمر ليس طارئا ولا يرتبط بالتطورات الأخيرة. "جاقا بيه" خطة أنقرة السرية التي كشفتها وثائق مسربة تعود لعام 2014 لغزو أثينا مستغلة انقسام دول القارة الأوروبية ويقول مراقبون إن تركيا تنظر إلى اليونان كخاصرة رخوة لأوروبا، وهو ما أظهرته أزمة اللاجئين السوريين الذين دفع بهم الرئيس التركي منذ أشهر بوجه أثينا. لكن الأمر أيضا له أبعاد تاريخية مرتبطة بالغزو العثماني لأوروبا وسيطرته على القسطنطينية والجرائم التي ارتبطت بتلك الفترة وألبسها العثمانيون البعد الديني. وظهر أحدث استفزاز لأردوغان من خلال خطته لتحويل “آيا صوفيا”، وهي حاليا متحف تراث عالمي لليونسكو، إلى مسجد، مما أثار ردود فعل سلبية قوية من اليونان وأوروبا. وأعلنت تركيا منذ أيام عن خارطة لأهداف ستشرع في تنفيذها خلال المرحلة المقبلة وتستهدف نقاطا في بحر إيجه وسواحل قبرص تزخر بموارد كبيرة على غرار النفط والغاز، وهو ما يعني أن التخوف اليوناني مشروع ولديه مسوغات كثيرة. ونشرت وزارة الخارجية خارطة تظهر الحقول الجديدة شرقي البحر المتوسط، والتي تنوي حكومة العدالة والتنمية التنقيب عن الطاقة فيها. وتعمقت العداوة بين تركيا واليونان مع التدخل العسكري التركي في قبرص يوليو 1974 ما أدى إلى تقسيم الجزيرة إلى نصفين، واحد يوناني والثاني تركي اتخذت منه أنقرة بوابة لعسكرة المياه الإقليمية التابعة للجزيرة، وفي الأشهر الأخيرة بدأت بالتنقيب عن النفط والغاز في تلك المياه بقوة السلاح بعد أن ظهرت تقارير عن وجود كميات واعدة من الغاز شرق المتوسط. أطماع تركيا في المتوسط تقودها إلى المجهول أطماع تركيا في المتوسط تقودها إلى المجهول ولا يستبعد المراقبون أن يغامر الرئيس التركي بالهجوم على اليونان أو جمهورية قبرص مستفيدا من حالة الارتباك الدولية، وخاصة داخل الاتحاد الأوروبي، من التدخل التركي العسكري في ليبيا وما سبقه من اتفاقية مع حكومة الوفاق تتيح لأنقرة ما ليس لها، كما تهدد بإفشال خطط لمد الغاز شرق المتوسط (من مصر وإسرائيل ولبنان) باتجاه أوروبا.وليست هناك مؤشرات على أن أوروبا، وأساسا دولها الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، يمكن أن تتحرك لإسناد اليونان في أي حرب مفاجئة أكثر من الإدانات والتحرك الدبلوماسي للضغط على الرئيس التركي الذي شجعه التدخل في سوريا واحتلال مناطق حدودية كأمر واقع، فضلا عن تدخلات باتت يومية في العراق دون أي ردود فعل جدية، على المزيد من المغامرة. وفيما تبدو بريطانيا غير منزعجة من لعبة التمدد التركي إلى المتوسط، فإن اليونانيين سينظرون بالأساس إلى فرنسا التي لا تخفي انزعاجها من تزايد النفوذ التركي في المتوسط، لكنها إلى الآن لا تزال تراقب مع إطلاق تصريحات نارية تظهر غضبها من سياسات أردوغان. ومع تقدم الوقت يتضاءل هامش المناورة لدى باريس لقطع الطريق على حلول في ليبيا تثبّت مكاسب الأتراك، خاصة في ظل تفاهمات روسية تركية، وأخرى أميركية تركية تظهر أن أنقرة ستكون رابحة من التدخل العسكري الداعم لحكومة السراج التي يسيطر عليها الإسلاميون. يبدو أن الوقت قد فات بالنسبة إلى تغيير الأوضاع العسكرية على الأرض، وأن التفاهمات في الغرف المغلقة هدفها الآن تقسيم المنافع بين المتدخلين الأجانب، ثم بعد ذلك فرض حل سياسي على الليبيين ليس المهم شكله وأدواته ومن يقبل منهم ومن يعارض، ولكن الأهم هو القبول بنتائج تلك التفاهمات والتعهد بتنفيذها. وفيما ترسل باريس بإشارات إلى أنها قد تغامر بالتوافق مع روسيا لقطع الطريق على أردوغان، فإن الأمر قد يراكم المضاعفات على أوروبا، فروسيا التي عقدت تفاهمات مع تركيا في سوريا لتثبيت نفوذها، وخاصة الحصول على اتفاقيات بعيدة المدى في مجال الموانئ والتنقيب عن النفط والغاز، قد تكرر الأمر في ليبيا وتستفيد من مشاغبات أردوغان للحصول على مزايا واتفاقيات استراتيجية في ليبيا بينها قاعدة جوية في الجفرة وأخرى بحرية في بنغازي. كما أن أوروبا التي تسعى لكف جموح أردوغان لا تريد أن تضع رقبتها تحت رحمة روسيا، العدو الاستراتيجي للناتو. ويعتقد المراقبون أن أوروبا تجني ثمار استراتيجية الرهان على الحماية الأميركية وعدم بناء قوة أوروبية خالصة يمكنها التحرك بإرادة أوروبية، دون الأخذ بالاعتبار حسابات واشنطن خاصة في ظل إدارة مثل إدارة ترامب التي فرضت على أوروبا زيادة مساهمتها في ميزانية دفاع الناتو دون أن يكون للحلف أي دور في ما يجري في المتوسط. صمت أوروبي لكن المربك أوروبيا أن السكوت على تزايد النفوذ التركي في المتوسط، وربما على مغامرة من أردوغان باستهداف اليونان، قد يوفر سابقة لتركيا لتحيي استراتيجية التمدد العثمانية في أراض أوروبية. ومن الواضح أن اليونان هي أكثر دول أوروبا استشعارا لمخاطر خطط أنقرة في المستقبل والسكوت عليها. وكانت اليونان الجمعة هددت بالدخول في مواجهة عسكرية مع تركيا بسبب ما أسمته مساعي لنهب ثرواتها وانتهاك سيادتها. وأكد وزير الدفاع اليوناني نيكوس بانايوتوبولوس أن سلوك تركيا أصبح عدوانيا وأن بلاده مستعدة لأي سيناريو للدفاع عن حقوقها وحدودها بأي وسيلة. وفي رد وصفه مراقبون بأنه حازم، قال بانايوتوبولوس إن بلاده مستعدة عسكريا لمواجهة تركيا وردعها. وقال المسؤول اليوناني “إننا لا نريد الوصول إلى هناك، لكننا نريد أن نوضح أننا سنقوم بكل ما يلزم للدفاع عن حقوقنا السيادية إلى أقصى حد ممكن”. وهناك خلافات كبيرة تشق طريق العلاقات اليونانية والتركية حول عدد من القضايا ترجع بالأساس لعقود بدءا من نزاعات على حقوق استغلال الموارد المعدنية في بحر إيجه وحتى قبرص. وتحاول أثينا منذ فترة حشد الدعم الدولي لمواجهة أطماع أنقرة في المنطقة خاصة بعد إعلانها الأخير عن خارطة تحركاتها التي تستهدف القيام بأنشطة تنقيب عن الغاز في شرق المتوسط. ووقعت اتفاقا مع إيطاليا بشأن الحدود البحرية، كما ينتظر أن تتوصل إلى اتفاق مع مصر، في مسعى لمحاصرة الأنشطة التركية. لكن الأمر التقني الميداني يحتاج إلى تحرك سياسي أشمل لمواجهة خطط أنقرة وروسيا في المتوسط. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :