بات من المؤكد أن تكون الأشهر القادمة صعبة على تونس في ظل تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية، وخاصة في ظل أزمة سياسية مزمنة تتم معالجتها بالهروب إلى الأمام، ونقل الأزمات إلى الخصوم بدل التوافق على حلها. ورغم أن المؤشرات تجمع على شتاء اقتصادي واجتماعي صعب، فإن الأحزاب السياسية والرئيس قيس سعيد، الذي بات طرفا محوريا في الأزمة لحسابات خاصة، يتعاملون مع المخاوف والتحذيرات ببرود شديد وكأن الصراع يلعب على أرض افتراضية وليس على أرض الواقع. بعد أن نجحت تونس في تطويق الخطر الصحي لوباء كورونا، في نسخته الأولى، بإجراءات إدارية تقوم على العزل والإغلاق وحملة تضامنية شعبية، فإن الوضع الآن بات أكثر تعقيدا إذا عاد الفايروس إلى الانتشار بسبب الفتح العشوائي للحدود والتخلي عن فكرة العزل الإجباري للقادمين من الخارج، تحت ضغط رجال الاقتصاد والسياحة الذين اعتبروا أن الحكومة تهورت حين أغلقت البلاد كليا بدل بناء إستراتيجية تقوم على التعايش مع الفايروس. والآن، بدا أن الحكومة قد سلمت الأمر للأقدار لإدارة ملف حساس، خاصة بعد أن أقالت وزير الصحة السابق وسلمت الحقيبة مؤقتا لوزير الشؤون الاجتماعية، إذ لا يمكن لوزير من خارج ميدان القطاع الصحي أن ينجح في تجميع أهل القطاع وتحويلهم إلى لاعب محوري وفاعل ومتحمس فيما هو مثقل بهموم حقيبتين وزاريتين ودوره يقف عند الإشراف الشكلي بانتظار حسم الخلافات وتشكيل حكومة جديدة. والمفارقة أن الحكومة التي نجحت في الحد من مخلفات كورونا اجتماعيا وصحيا وحازت على إشادات محلية وخارجية، استقالت وتفكك داعموها وتحولوا إلى أعداء في ظرف أسابيع قليلة، خاصة بعد أن ظهر رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ في وضع صعب بسبب شبهات تضارب المصالح واستثمار موقعه لتحقيق مكاسب لشركاته خلال نفس الفترة التي كانت البلاد تشهد حركة تضامن وتبرعات واسعة لدعم جهود حكومته في مواجهة الوباء. لكن الأهم من كل هذا، أن الحكومة اعتبرت أن التطويق المؤقت لانتشار الوباء نصر سياسي لها وللرئيس سعيد الذي يقف وراءها، ولم تضع أيّ برامج ولا خططا لتطويق مخلفات كورونا على الوضع الاجتماعي خاصة مع إغلاق مؤسسات اقتصادية وعجز أخرى عن دفع رواتب موظفيها والإيفاء بتعهداتها لمؤسسات التأمين ودفع الضرائب للدولة. وتحت ضغط الاحتجاجات الشعبية والاعتصامات والإضرابات، التي عطل بعضها، بشكل شبه كامل، قطاعات الفوسفات والنفط في الجنوب، تلجأ الحكومة والأحزاب المختلفة للخروج من هذه الورطة إلى مناورة فتح أبواب التوظيف في القطاع العام، أي أن تتولى الدولة إطلاق وعود لانتداب الآلاف ثم تضطر لاحقا إلى التخلي عن تعهداتها لاستحالة ذلك عمليا. وهذا أمر مفهوم، فالطبقة السياسية التي تحكم البلاد منذ عشر سنوات، وحولتها إلى ما يشبه الدولة الفاشلة، لا تمتلك خبرات في الحكم، وهي تنظر إلى الدولة على أنها الجهة الوحيدة التي يجب أن تتحكم في الاقتصاد وتتولى توفير الخدمات للناس، وخاصة توظيفهم وتحقيق الرفاهية لهم، وهي دولة افتراضية لم يشهد العالم مثيلا لها في أي تجربة سابقة، بما في ذلك تجارب الدول التي تبنت رؤية طوباوية للماركسية. ورغم استحالة ذلك، تطالب مختلف الأطراف السياسية الدولة بتولي مهمة توظيف الآلاف من خريجي الجامعات، وعشرات الآلاف من العمال المؤقتين الذين تم توظيفهم في مهن وهمية ترتبط بالبيئة والبلديات (المحليات) خلال موجة احتجاجات تلت سقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي. ومنذ أيام تبنى البرلمان قانونا يضع سقف أربع سنوات لانتداب خريجي الجامعات الذين مر على تخرجهم أكثر من عشر سنوات، والانتداب المقصود به التوظيف في مؤسسات الدولة، لكن الحكومة قالت في رسالة للبرلمان إنها لا تمتلك الاعتمادات الكافية لانتداب هؤلاء، وأن القانون شعبوي، في الوقت نفسه يستمر رئيس حكومة تصريف الأعمال في إغراق الإدارة بالتعيينات والترقيات في معركة مع الوقت لزرع أنصار له وللأحزاب الداعمة له في قلب الإدارة، والحفاظ على دور محوري في الحكومة المقبلة حتى وهو خارجها، في استنساخ للدور الذي لعبه رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد. من جانبه، يريد اتحاد الشغل (منظمة العمال الأكثر شعبية) أن تتم الانتدابات عبر قنوات يكون هو طرفا فيها، مثل انتداب ما يعرف في تونس بالنواب، وهم بالآلاف، وكانوا دخلوا بشكل عرضي ونجح الاتحاد في فرض انتدابهم على دفعات ضمن مفاوضات ترضية وتهدئة خواطر مع الحكومات المتتالية، التي تعمل على استرضاء الاتحاد وكسبه في صفها، حتى وإن قدمت له تنازلات مؤلمة تكون بمثابة ألغام تحت أقدام الحكومات القادمة. وبالنتيجة، فإن التعامل مع الملف الاجتماعي كورقة مناورة وتفاوض سياسي جعل الحكومات المتتالية تنظر إلى ملف التشغيل كحلول وقتية، بدل البحث عن حلول دائمة، تقوم على دعم الاستثمار في القطاعين الحكومي والخاص، وتطوير القوانين، ومقاومة الفساد، خاصة الفساد السياسي الذي يرهن الدولة ومستقبلها في التفاوض الحكومي والمكاسب الحزبية. ورغم الضغوط القوية من الجهات المانحة، وخاصة صندوق النقد الدولي، فلا يؤمل أن تبدأ أي حكومة تنفيذ الإصلاحات المؤلمة التي تطلب منها، وخاصة ما تعلق بالشفافية ومكافحة الفساد، والكف عن إغراق الدولة بالانتدابات، ووقف سياسة شراء السلم الاجتماعي بالزيادة في الرواتب والعلاوات وتفضيل كسب ود اتحاد العمال على وضع إستراتيجية تقشف قاسية كبوابة ضرورية لإنقاذ البلاد. ومن الواضح أن الأمور ستزداد صعوبة مع تلويح صندوق النقد بوقف القروض، وتراجع أداء السياحة بشكل كبير تحت ضغط المخاوف من كورونا، فضلا عن الإهمال الذي يقابل به قطاع الفلاحة. وكان آخر المؤشرات على نفاد صبر الدوائر الخارجية من الوضع في تونس، هو الضغوط الإيطالية المكشوفة على تونس لوقف قوارب الهجرة السرية، وهي قوارب تضاعفت بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة بسبب غياب الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، في ضوء محاولات جرها إلى السياسة والاستقواء بها على الخصوم. وتقول تقارير إن إيطاليا هددت بوقف المساعدات التي تقدم لتونس مقابل دورها في “حراسة” قوارب الهجرة، وأن علاقتها بالاتحاد الأوروبي قد تزداد سوءا، ما دفع الرئيس سعيد إلى التحرك شخصيا لمطالبة السلطات المحلية في المحافظات التي تنطلق منها الهجرة السرية المنظمة إلى التحرك بسرعة لتطويق الأمر، خاصة أن الوضع بدا يستهدف صورته كرئيس يفترض أن يكون قويا وحازما وقادرا على ضبط الأمور ليكون المحاور الرئيسي مع الخارج. لكن هذا الوضع الخطير لا يزعج الحكومة والأحزاب ورئاسة الجمهورية، والجميع يركز على لعبة تقليم أظافر الخصوم والخروج كأبرز مستفيد من معارك سياسية باتت مكشوفة ومقرفة، فيما يجد الشعب نفسه مجبرا على المتابعة وإبداء الأسف لوضع بلاده.
مشاركة :