تجري اليوم انتخابات داخل البرلمان التونسي بهدف سحب الثقة من رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أو تثبيته في مكانه، وأيا كانت النتيجة فإنها ستقود آليا إلى مراجعة وضع الغنوشي كشخصية سياسية لعبت أدوارا متعددة منذ 2011، انتهت بتجربة الانتقال السياسي في البلاد إلى وضع عنق الزجاجة. ورغم ما يبديه الغنوشي وفريقه البرلماني من ثقة في قدرتهم على المناورة والاحتفاظ بالأغلبية، التي تسمح له بالبقاء على رأس البرلمان، فإن تحرك الفريق المقابل، وهو فريق يضم كتلا متنوعة بما فيها “أصدقاء” من “التحالف الثوري” الذي كان يقود الحكومة بالاشتراك مع النهضة، قد ينتهي إلى وضع الغنوشي في الزاوية، وإخراجه من رئاسة البرلمان في هزيمة رمزية، للرجل الذي أراد أن يظهر في الأشهر الأخيرة وكأنه صاحب الدور الأول في المشهد السياسي، خاصة بسعيه للسيطرة على مهام رئيس الجمهورية قيس سعيّد، في رسم السياسات الخارجية للبلاد ودفعها إلى لعبة المحاور. وتشير تسريبات الساعات الأخيرة أن النهضة قد تخسر نفوذها في البرلمان، وأن التحالف الذي شكلته مع حزب “قلب تونس”، الذي يرأسه قطب الإعلام نبيل القروي، قد لا يصمد في ظل الإغراءات والإغراءات المضادة. وإذا كانت النهضة قد ضمنت ولاء “قلب تونس” خلال الأشهر الأخيرة من خلال التمسك بضمّه إلى الحكومة، وظلت تعده بأن يكون شريكها الرئيسي في أيّ حكومة قادمة، فإن خسارة دورها في الحكومة الجديدة، ككل الأحزاب، قد يفقدها ثقة الشريك بانتفاء المصلحة المشتركة، خاصة في ظل عروض من الشق المقابل قد تغري “قلب تونس” والكثير من نوابه بسحب الثقة من الغنوشي، مقابل حصول الحزب على رئاسة البرلمان في شخص سميرة الشواشي، النائب الأول لرئيس البرلمان الحالي، والشخصية التي تحوز على ثقة واسعة داخل المؤسسة التشريعية. وتؤشر خسارة رئاسة البرلمان، رغم رمزيتها، إلى تحوّل كبير في المشهد السياسي، خاصة سقوط المعادلة التي بنتها النهضة منذ 2014، والتي تقوم على توسيع دائرة الخلاف بين خصومها بما في ذلك الأحزاب التي تنتمي إلى أرضية فكرية وسياسية واحدة، مثل المجموعات المتفرعة عن حزب نداء تونس. ومن شأن سقوط هذه المعادلة أن تضع النهضة خارج الحكومة وتجعلها كأقلية في البرلمان، وهو ما سيقود إلى فشل استراتيجية الهيمنة الناعمة التي اعتمدها الغنوشي منذ 2014 من خلال شراكة تقوم على “توافق” يجعل الحركة هي الحاكم الفعلي وإن كانت لا تظهر في الصورة، أو ظهرت في دور الشريك الحكومي بأقل عدد من الوزراء. وقد نجحت هذه الاستراتيجية في إبعاد الأضواء عن التسلل الهادئ والمنظم لمؤسسات الدولة، التي عجزت عن تنفيذه حركة النهضة، حين حكمت بشكل مباشر في 2012 - 2013 بسبب صعوبة اختراق الإدارة، ووجدت الوقت الكافي بفضل “التوافق” في تنفيذه، فيما كان الصراع السياسي يجلب الأنظار بعيدا إلى قضايا جزئية، كانت أحيانا تساهم النهضة في خلقها لإدامة الغموض والجدل والصراخ السياسي، بما يساهم في التغطية على خططها. لكن الأهم في مسعى سحب الثقة من الغنوشي هو إظهار أن الرجل لا يحظى شخصيا بالقبول داخل البرلمان وخارجه بسبب تراكمات تاريخية ترسم صورة له تقوم على التشدد وتحصره في الفضاء الإخواني، كونه شخصية تاريخية مهدت لدخول الفكر الإخواني في تونس، كما لعب لسنوات أدوارا قيادية في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي أسسه ويرأسه شرفيا الآن يوسف القرضاوي، ويعد واجهة فكرية وعلمية وسياسية للتنظيم الدولي. وتقول تسريبات من محيط حركة النهضة إن الغنوشي ينتظر مرور عاصفة سحب الثقة بسلام، وإنه يفكر في الاستقالة من رئاسة البرلمان في حركة يظهر من خلالها أنه غير راغب في البقاء طالما وجوده يسبب أزمة دائمة في المؤسسة التشريعية. لكن هذه الاستقالة لو تمت ستعني أن الغنوشي بات يعتقد، هو نفسه، أن وجوده على رأس مؤسسات الدولة أمر غير ممكن، وهو ما يعني أن حلمه برئاسة الجمهورية كتتويج لرحلته السياسية سيسقط نهائيا، وأن قدره أن يظل في رئاسة حركة النهضة، في تأكيد على أن الظروف والتعقيدات التاريخية لن تسمح له بأن يتحول إلى شخصية وطنية ذات عمق شعبي، مثل العمق الذي كان يحظى به الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، المنافس الذي تمنى أن يظل حليفا له وفق ما جاء في المقال الذي كتبه الغنوشي منذ أيام في ذكرى رحيل الرئيس التونسي السابق. وما سيسهل عودة الغنوشي إلى النهضة، كخيار ضرورة، هو حالة التوتر العالي مع الرئيس قيس سعيّد، وهو توتر تسبب فيه الغنوشي بالدرجة الأولى، بسبب تصديه للعب دور دبلوماسي متقدم في الأيام الأولى لصعود قيس سعيّد إلى الرئاسة، في حركة كانت تهدف إلى إظهار أن الرئيس الجديد رئيس صوري، وأن رئيس البرلمان هو الحاكم الفعلي، ما قاد إلى ردّات فعل قوية من رئيس الجمهورية سواء في خطاباته، أو من خلال السعي إلى إحراج الغنوشي بشكل مباشر في لقاءات تجمع بينهما وبث ذلك في فيديوهات موجهة. لكن الحركة الأكثر دلالة هي عقد اجتماع لمجلس الأمن القومي دون حضور رئيس البرلمان، وتغيير اسم الاجتماع إلى المجلس الأعلى للجيوش والقيادات الأمنية. وبهذا، فإن بقاء الغنوشي في الواجهة بات أمرا مزعجا للنهضة بالدرجة الأولى، التي لا شك أنها ستحاول سحب رئيسها إلى الظل ولو قليلا وإجباره على ذلك من خلال مناورة التنازل الطوعي عن رئاسة البرلمان، والتخطيط لتمكين شخصية مقربة من الحركة أو غير معادية لها من رئاسة البرلمان قد تكون سميرة الشواشي، في حركة تهدف إلى تثبيت الأغلبية البرلمانية، وتسهيل مواجهة حكومة الرئيس2 وعرقلة أدائها خاصة إذا استمر الرئيس سعيّد في خيار تهميش الأحزاب. وبالنتيجة، فإن بقاء الغنوشي في رئاسة البرلمان، أو كمفاوض مباشر، بات يضعف هامش المناورة لدى النهضة، على عكس الفترة التي كان يتحرك فيها من وراء ستار ويفتح الباب أمام مفاوضين يجدون مقبولية شخصية لدى مختلف الخصوم. والمفارقة أن انكفاء الغنوشي إلى داخل النهضة بات أمرا مزعجا أيضا، في ظل وجود معارضة قوية لاستلامه مهمة الرئاسة، من بوابة المؤتمر الحادي عشر، الذي تأجل أكثر من مرة بسبب سيطرة التيار المعارض لبقاء الغنوشي في الرئاسة، ومعارضة أي تعديلات على النظام الداخلي تتيح التمديد له، بعد أن ضبط المؤتمر التاسع أمر الرئاسة بدورتين متتاليتين غير قابلتين للتجديد تحت أي مسوّغ. وإذا كانت الأزمة البرلمانية، وخاصة التوتر مع الرئيس سعيّد، قد حجبا هذه الخلافات، فإنها مرشحة للعودة بقوة، خاصة في ظل اتهامات للشق المعارض بالوقوف وراء تسريب الفيديو، الذي ظهر فيه الغنوشي يستهين بقدرات رئيس الجمهورية ومحدودية فهمه لتعقيدات الملف الليبي. ويقول الموالون للغنوشي، إن الهدف من التسريب هو محاصرة الغنوشي بالأزمات داخل الحركة وخارجها، وخاصة إرباكه بمراكمة العداء بينه وبين الرئيس قيس سعيّد، واتهام مواقفه غير المحسوبة بإضعاف الحركة والمساهمة في خسارة نفوذها داخل الحكومة وصورتها كحركة مناورة تقدر على العمل مع كل الخصوم. وقد ينتهي الغنوشي من رجل قوي، نجح في ترويج صورته كشخصية محورية في ملفات البلاد، إلى رجل معزول عن مهامه الوطنية والحزبية، بسبب المبالغة في الطموح والرغبة في توسيع دائرة النفوذ، دون قراءة حساب لردّات الفعل المختلفة.
مشاركة :