أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الثلاثاء، عن قلقها إزاء اعتقال واحتجاز وسوء معاملة عدد كبير من المواطنين المصريين في مدينة ترهونة. وأشارت إلى أن الأمر قد يعد انتهاكا لالتزامات ليبيا بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، بشأن حظر التعذيب والمعاملة أو العقوبة اللاإنسانية أو المهينة. تطورات جديدة لا تنفصل عما هو سياسي وتصنف في خانة انتقام الميليشيات الداعمة لحكومة الوفاق من مواقف القاهرة الرافضة للتدخل التركي ولسيطرة الإسلاميين على ليبيا. القاهرة – تعاني العمالة المصرية التي بقيت في أشغالها بمدن الغرب الليبي، من مشكلات عميقة على يد الميليشيات المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني، المدعومة عسكريا من تركيا، حيث تعرضت لعمليات انتقام منها، بذريعة أن الحكومة المصرية تدعم الجيش الوطني الليبي، وحاولت الكتائب المسلحة الإيحاء بأنها تسيطر تماما على الأوضاع ولن يتم اقتلاعها من خلال تعذيب عدد من هؤلاء، لا علاقة لهم بالحرب وحسابات أطرافها. وأظهر فيديو لقي رواجا اليومين الماضيين، اعتقال العشرات من العمال على يد ميليشيات بعد دخولها ترهونة، وكشفت الصور المتداولة عن إهانتهم، وإجبارهم على ترديد ألفاظ نابية ضد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، والمشير خليفة حفتر، مقابل الإشادة بدور المتطرفين. قضية مزمنة تفاعلت القضية على أكثر من مستوى مصري وليبي، وبدت كأنها مطية لإبراق رسائل في اتجاهات متضاربة، كل جهة تحاول الاستفادة منها بالطريقة التي تخدم رؤاها السياسية، وتظهر قوتها العسكرية. وقالت وزيرة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج، نبيلة مكرم، الاثنين، إن إهانة العمال على يد مرتزقة أوقفوهم أمر “لن يمر”، ومصر بكل مؤسساتها وأجهزتها تضع حماية المواطنين على رأس أولوياتها، مؤكدة أنها “لا تصمت في ما يتعلق بأي تعد على المصريين في الخارج”. شهدت مدن الأصابعة وصبراتة وصرمان والعجيلات، في غرب ليبيا، انتهاكات كثيرة على يد الميليشيات المتحالفة مع حكومة الوافق، وجرت عمليات انتقامية وصلت إلى حد قتل عدد من المواطنين، وتدمير وإحراق منازل وسرقة محال تجارية. نبيلة مكرم: إهانة المصريين في ليبيا على يد مرتزقة أمر لن يمر نبيلة مكرم: إهانة المصريين في ليبيا على يد مرتزقة أمر لن يمر طالب النائب في البرلمان المصري، مصطفي بكري، الحكومة بـ”طرد سفير حكومة طرابلس من مصر احتجاجا على القبض على أكثر من 200 من العاملين في ترهونة وبعض المناطق الأخرى في مناطق الغرب الليبي.. وأن اختطاف الميليشيات الإرهابية لعدد من العاملين المصريين وتعذيبهم وإهانتهم جريمة حرب وانتهاك لحقوق الإنسان”. يلوم البعض من المراقبين الأمم المتحدة على صمتها في البداية حيال هذا النوع من الانتهاكات التي يتعرض لها مواطنون وأبناء جاليات أجنبية، بينما تفاعلت سريعا مع ما أثارته حكومة الوفاق أخيرا بشأن مزاعم حول قيام قوات الجيش الليبي بقيادة المشير حفتر بارتكاب مخالفات حرب في بعض المدن الليبية، وأعلنت عزمها التحقيق فيما قيل إنه “جرائم قتل جماعية” ارتكبت في ترهونة، وتجاوبت معها قبل أن تتحقق من وجودها والفاعل الأصلي لها. ويشير هؤلاء إلى أن وجود المرتزقة والكتائب المسلحة بكثافة في طرابلس ومصراتة وترهونة والزنتان، وغيرهم، سوف يؤدي إلى المزيد من الفتن بين المواطنين، وارتكاب جرائم جديدة في حقّ العمالة الأجنبية، لأنه من المطلوب أن تظل ليبيا على فوهة بركان، يمنع التوصل إلى تسوية، ويردع بعض القوى الخارجية. وأثار احتجاز روسيين في ليبيا أزمة سياسية مع موسكو، حيث قالت جهات ليبية إنهم مرتزقة من عناصر “فاغنر”، وقاتلوا ضمن قوات الجيش الليبي، بينما ذهبت روسيا إلى أنهم لا علاقة لهم بأي جهة عسكرية، وهم ضمن العمالة الروسية الموجودة في ليبيا، ويجب فك احتجازهم. ربما يكون الوضع مختلفا بين الروسييّن والعمال المصريين، لأن الفئة الأولى يشوبها الكثير من الالتباس السياسي والعسكري، بينما أفراد المجموعة الأخيرة لا شكوك في أنهم عمالة بسيطة، تم اعتقالهم بدافع الانتقام أو المساومة. وتبدو العمالة المصرية الحلقة الأضعف في ليبيا، لكثرتها وانتشارها في مدن مختلفة، لا تفرق بين شرق وغرب، بحكم الروابط الوثيقة بين الشعبين المصري والليبي. وفي كل مرة تضعف فيها العلاقات بين القاهرة وطرابلس تقفز ورقة العمالة، حيث كان العقيد الراحل معمر القذافي يهدد بطردها كلما اتسعت خلافاته مع النظام المصري، خاصة وأنها بلغت في وقته أكثر من مليوني مصري يقيمون في أنحاء ليبيا. كانت القاهرة تتحسب من عودة هذا الرقم الكبير وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية، لذلك امتصت دوما غضب العقيد القذافي، وتجاوزت كثيرا عن بعض التصرفات التي رأتها غريبة في ذلك الوقت، وحرصت على تجنيب العمالة تحمل تكاليف الخلافات السياسية. العمالة المصرية الحلقة الأضعف في ليبيا، لكثرتها وانتشارها في مدن مختلفة، لا تفرق بين شرق وغرب، بحكم الروابط الوثيقة بين الشعبين المصري والليبي عقب سقوط نظام القذافي عادت غالبية العمالة إلى مصر بسبب اتساع نطاق الحرب، وبقيت فئة ارتبطت أسريا وتجاريا بليبيا، لكن البقاء لم يخل من منغصات شخصية وغير منظمة، حتى اشتد عود المتطرفين، وتحول هؤلاء إلى ورقة يتم التهديد بها من وقت لآخر، وجرى في بداية عام 2015 ذبح 22 مواطنا مصريا، من الأقباط، في مدينة سرت، على يد تنظيم داعش. كشفت هذه الواقعة عن عمق الغضب لدى القاهرة، ووجه الطيران المصري وقتها ضربات علنية مكثفة على بؤر للمتطرفين في سرت ودرنة، في عملية بدت كنوع من الانتقام لذبح هؤلاء، وانطوت على رسالة قوية تفيد بأن هذا هو مصير من يعتدي على مصريين في ليبيا. تتبنى مصر سياسة الأداتين في مثل هذه الأحوال، أداة العرف والتقاليد والعلاقات الاجتماعية الوثيقة مع شيوخ القبائل، وأداة الاستخبارات التي تعرف كل كبيرة وصغيرة على الأراضي الليبية، وإذا لم تجد نفعا من أي منهما، سيكون طريق استخدام الخشونة مفتوحا أمامها. يتذكر المتابعون واقعة الانتقام لذبح المصريين الآن، بعد اعتقال العمال في ترهونة ونقلهم إلى مصراتة، في دلالة تعبر عن عدم استبعاد القاهرة القيام بعمليات عسكرية تتمكن بموجبها من فك أسر المصريين، وتوجيه رسالة حاسمة لخاطفيهم. استطلعت “العرب” رأي بعض المصادر المصرية في الحادث، وحصلت على معلومات تفيد بأن هناك اتصالات تجري بين القاهرة وجهات رسمية وشعبية وقبائلية في طرابلس لاحتواء الموقف، ومنع تصاعده في توقيت طرحت فيه مصر مبادرة لحل الأزمة الليبية. براغماتية باشاغا جرى توجيه رسائل تؤكد أن الانخراط المصري في عملية التسوية السياسية المتوقعة لن يثنيها عن معاقبة المجرمين، إذا لم يتم إخلاء سبيل العمال من قبل الميليشيات، وتحاول جهات عدة استثمار الموقف لإعادة تصويب مسار العلاقات مع القاهرة، حيث أوضحت حكومة الوفاق أن من تورطوا في هذه الممارسات المشينة سيتعرضون للمحاسبة والعقاب. دخل وزير الداخلية الليبي، فتحي باشاغا، على الخط السياسي للأزمة، ليبدو كمن يريد التعاون مع مصر، وكسب دعمها، حيث يطمح في خلافة فايز السراج، والجلوس على كرسي المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الجديدين. أصدر الرجل بيانا، الأحد، بعث من خلاله رسالة ليونة نحو القاهرة، وقال فيه، إنه كلف جهاز المباحث الجنائية والإدارة العامة للعمليات الأمنية بالتحري عن وقائع فيديو العمال المصريين، وفتح محاضر استدلالات بشأن المعلومات التي سيتم الحصول عليها، سواء ثبتت صحتها أو كانت مزيفة لأغراض أخرى وتقديم مرتكبيها للعدالة في كل الأحوال. ألمحت المصادر إلى أن باشاغا يمتاز ببراغماتية عالية وليونة عند اللزوم، ويملك نهما للسلطة، ولديه من المقومات ما يساعده على التطلع إليها، فهو من مصراتة وله ثقل قبلي، وقريب من الولايات المتحدة وبريطانيا، وله شبكة علاقات إقليمية ودولية جيدة، وعنده قدرة على الاحتفاظ بتوازنات جيدة مع التيار الإسلامي وغيره من القوى السياسية، ناهيك عن أنه طيار سابق، وينتمي إلى المؤسسة العسكرية. الانخراط المصري في عملية التسوية السياسية لن يثنيها عن معاقبة المجرمين الانخراط المصري في عملية التسوية السياسية لن يثنيها عن معاقبة المجرمين وأعلن باشاغا تحفظه على المبادرة المصرية الأخيرة لحل الأزمة الليبية، في إطار حساباته الداخلية، غير أنه لم يعدم خطوط تواصل مع القاهرة، قد تكون انقطعت خلال الفترة الماضية، غير أنه يريد إعادتها، لأنه يعلم أن لمصر دورا وازنا في الكثير من التطورات في ليبيا، وحريصة على عدم الوصول إلى نقطة اللاعودة مع عدد كبير من القوى السياسية. استنكرت وزارة الداخلية الواقعة واعتبرتها “عملا إجراميا مخالفا لكل المواثيق والشرائع والقوانين المحلية منها والدولية”، مؤكدة أن مثل هذه الوقائع لن تفت في عضد العلاقات المتينة بين الشعبين المصري والليبي، ولن تلحق الأذى إلا بمن يسعى لتوظيفها. تؤكد القاهرة رغبتها في توحيد المؤسسات الليبية تحت قيادة رسمية قوية، وترفض التفريط في وحدة الأراضي الليبية، وهو ما جعلها تبدو منفتحة على غالبية الألوان السياسية والعسكرية والاجتماعية، وتعي أن دورها يتحدد بقدر ما تملكه من أوراق محلية. استقبلت مصر السنوات الماضية مئات الآلاف من الليبيين للإقامة والعمل والاستثمار، والكثير منهم لهم روابط اجتماعية قوية، ولم تلتفت كثيرا إلى انتماءاتهم السياسية، الأمر الذي مكنها من الحوار مع عدد كبير منهم. وفي أوج رفضها لتصرفات حكومة الوفاق والتدخلات التركية ورفض وجود المتطرفين في السلطة وخارجها، امتلكت مرونة واحتفظت لنفسها بخطوط رجعة مع بعض القوى السياسية، لأن ليبيا جزء معتبر في الأمن القومي المصري، وفضاء رحب لاستيعاب المزيد من العمالة، التي لن تنقطع عنها في حالتي الحرب والسلام.
مشاركة :