لا يمكن الفصل بين مسار أحداث التخريب والاستباحة التي شهدتها بيروت وطرابلس والحضِّ على الفتنة الطائفية وقرارات التحايل لضخ الدولار إلى الصرافين بذريعة دعم سعر الصرف، وقانون العقوبات الأميركي الجديد «قيصر» الذي وُضِع في التطبيق أمس (الأربعاء)! أي نظرة متأنية إلى قانون العقوبات الأميركي، يجد المتابع أن اعتزام واشنطن معاقبة نظام الأسد، لا ينفصل عن مشروعها الأصلي في المواجهة مع النظام الإيراني. فالقراءة للوضع السوري من منظور الموقف الأميركي تنحو إلى كسر المناورات والدفع نحو مسار الحل السياسي بتطبيق القرار الدولي 2254، أي دستور جديد وانتخابات تحت إشرافٍ أممي بعد تطبيع للوضع، على قاعدة محاصرة النفوذ الإيراني. في السياق نفسه ستفرض واشنطن عقوبات صارمة على رموز ومؤسسات النظام وفي المرحلة الثالثة في مطلع شهر أغسطس (آب) المقبل ستطال العقوبات أي جهة تسهم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر في دعم النظام السوري. تستهدف مروحة العقوبات الواسعة قطع مشروع الهلال الإيراني، وكسر الجسر الذي يربط طهران بالمتوسط عبر العراق وسوريا، وهو الجسر الذي كان قاسم سليماني قد احتفى به يوم افتتح معبر البوكمال تحيط به قيادات «الحشد الشعبي» وقيادات عسكرية سورية وعراقية! بعيداً عن تاريخ وضع القانون في التطبيق، أجرت الحكومة العراقية مباحثات مع واشنطن عبر تطبيقات متلفزة انطلقت من الاتفاقات بين البلدين، وهدفت إلى تطويرها في المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والمالية. لم تتأثر تلك المباحثات مطلقاً بما هو معلن من اعتزام الإدارة الأميركية فرض عقوبات على فصائل «الحشد الشعبي» وقياداته، ما وجه رسالة بأن حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، تفصل بين المصالح الوطنية العراقية والمصالح الإيرانية. قانون «قيصر» الذي استعرضته السفيرة الأميركية مع الرئيس ميشال عون، بعدما كانت وزيرة الدفاع قد وزعت ترجمته إلى العربية على أعضاء مجلس الوزراء، استمر الغموض حياله يلف الموقف الرسمي، إذ لم تصدر بشأنه أي إشارة. لكن القراءة في الممارسة الفعلية، من تغطية تغول الدويلة داخلياً كما أدوارها الخارجية، تُفاقم من الخشية وتُضاعف من الخوف مما قد يتعرض له لبنان، خصوصاً عندما يرى بعض الجهات أن التعامل مع هذا القانون تم تلزيمه إلى ميليشيا «حزب الله»، بتجاهل كامل للتداعيات. وهكذا في عشية 17 الجاري أطل الأمين العام للحزب حسن نصر الله ليعلن إملاءاته متمسكاً ببقاء السلاح وتقديسه لشدّ عصب جماعته، فتعهد بتوظيف لبنان في خدمة نظام الأسد، ووجوب مواجهة هذا القانون «الظالم والمتوحش»، متهماً الأميركيين بالمسؤولية عن أزمة الدولار بحجبه عن لبنان (...) وأن البديل الانصهار الاقتصادي مع إيران، رابطاً الليرة بالتومان الإيراني الذي يسجل انهياراً تاريخياً! على الأرض استمر منحى الترهيب في القبض على الشارع، فبدت الدولة بمثابة الضحية التي انمحت ولم تعد موجودة، أمام التعامي الحكومي عما يجري وفوقه تجهيل الفاعل بعدما أثار القلق «تحييد» القوى الأمنية والعسكرية عن القيام بدورها في حماية الأرواح والممتلكات. فاستذكر المواطنون أحداث «7 أيار» التي ما زالت راسخة في الذاكرة، خصوصاً أن الميليشيات التي دمرت وأحرقت، عادت في اليوم التالي تتحرك علانية لتفرض حالة من «الأمن الذاتي»، كان يمكن أن تستدعي انفلات الغرائز الطائفية بحيث يكون مبرراً لـ«حزب الله» أن يستخدم فائض قوته وليغرق البلد! لأن المطلوب الصمت على مشروع تحويل اللبنانيين إلى وقود، في خدمة مخطط خارجي يضع لبنان في مواجهة العقوبات وقانون «قيصر»! بعبارة أخرى حرّكت ميليشيا «حزب الله» كل عناصر الفتنة للترهيب والتطويق، وتغطية كل ذلك بتبنٍّ مزعوم للشعارات المطلبية، فيما لم يُعرف عنها يوماً أي اكتراث بهموم الناس وقلقهم وجوعهم ولا حتى قبول احتجاجهم! هذا المنحى المقلق شكّل تتمة لنهج خطط لاستخدام لبنان ساحة خلفية للتخفيف من أثر العقوبات على سوريا وداعميها، لتشهد الحدود اللبنانية أكبر استباحة لتمكين النظام السوري من تخزين سلع رئيسية كالقمح والمشتقات البترولية. طُرح على بساط البحث ضرورة إقفال معابر التهريب، بعدما تبين أنها تستنزف المتبقي في المصرف المركزي، بحيث بلغت قيمة السلع المدعومة المهربة نحو 4 مليارات دولار سنوياً، والأمر مستمر منذ 5 سنوات! لكن «حزب الله» الذي وضع خطاً أحمر، مارس الضغوط لفتح قنوات تواصلٍ على أعلى مستوى مع النظام السوري، وقدم شروحات عن «السوق المشرقية» كبديل اقتصادي إنقاذي! التي راح الوزير السابق جبران باسيل بمناسبة ومن دون مناسبة يشرح للمواطنين «الخير العميم» الآتي منها، من خلال الاتحاد الاقتصادي مع سوريا وإيران والعراق وربما فنزويلا وكوريا! واستمرت الحدود سائبة، ووردت معطيات في اجتماع مجلس الدفاع الوطني الاثنين الماضي، مفادها استمرار تهريب المازوت المدعوم إلى الداخل السوري (!!). وبموازاة ازدياد وتيرة التهريب عشية بدء العقوبات، شهد لبنان حرب استنزاف على المتبقي من الودائع بالدولار التي كانت تجد طريقها إلى خارج الحدود لتأمين احتياط نقدي للنظام السوري. واللافت هنا أنه مع الانهيار المالي الخطير واتساع البطالة والمجاعة، تم التصويب من جانب الحكم على حاكم مصرف لبنان لتحميله وحيداً المسؤولية عن ضخ الدولارات في السوق لتثبيت سعر الصرف ما فاقم من المديونية، لكن الرئيسين عون ودياب في اجتماع 13 يونيو (حزيران) الماضي ارتكبا الخطيئة نفسها عندما طلبا ضخ دولارات مجدداً لتثبيت سعر الصرف دون الـ4000 ليرة! وجاء هذا الطلب لخدمة أجندة «حزب الله» للمضي في نقل الأموال إلى سوريا بعدما فرغت خزائن طهران من «المال الحلال». قرار لم يسفر عنه رف جفن أحد رغم أن في الأمر سطواً على الاحتياطيات الإلزامية للمصارف الموجودة لدى مصرف لبنان. وهذه الاحتياطيات هي ملكية خاصة تعود للمودعين وليست من احتياطي المصرف المركزي! خلاصة القول: لا أحد يعلم على أي جدار تتكئ السلطة اللبنانية، التي دفنت الرأس في الرمال ولم تتوقف للبحث في تداعيات الرضوخ لأجندة قوى الممانعة، الأمر الذي يلقي على كاهل قوى «ثورة تشرين» أعباء إضافية بالذهاب إلى الناس، لاستنهاض القدرات والقوى والكفاءات ولاستنباط الأطر التي من شأنها رفع مستوى المجابهة السلمية، حتى بلورة ميزان قوى راجح شعبياً يتيح إطاحة الحكومة التي يشغلها «حزب الله»، فتغطي منحى الانحدار وتعميم الخراب واستسهال وضع لبنان في موقع التصادم مع المجتمع الدولي. * نقلا عن "الشرق الأوسط"
مشاركة :