بين فترة وأخرى تطالعنا بعض التصورات أو التحليلات التي تفيد بقرب انهيار الولايات المتحدة الأميركية. وقد تزايد، مؤخّرًا، هذا النمط من الكتابات التي باتت تدلل على استنتاجاتها بطريقة إدارة الرئيس دونالد ترامب للملفات الداخلية والخارجية، والمتميزة بالشعبوية والتفلّت من العقلانية والديمقراطية، أو بدلالة بعض الحوادث التي تنتمي إلى بقايا التمييز العنصري، كما بدلالة صعود بعض الدول مثل الصين، إلخ. بيد أن تلك التصورات والتحليلات عن صعود أو هبوط مكانة الولايات المتحدة ليست جديدة، فإبان مرحلة “الحرب الباردة” كثر الكلام عن حتمية انهيار الإمبراطورية الأميركية، والعالم الرأسمالي، وعن الانتصار المؤكّد لما كان يسمى “قوى الثورة العالمية”، التي تضمّ منظومة الدول الاشتراكية والأحزاب العمالية في البلدان الرأسمالية وحركات التحرر الوطني. بيد أن كل ذلك تبين، كما أثبتت التجربة، أنه مجرد كلامي سياسي ودعائي ورغبوي وسطحي. وكانت مشكلة أصحاب تلك التحليلات والتصورات تكمن في يقينيّاتهم، ونظرتهم الأيديولوجية، وعقليتهم الإيمانية، ونزعتهم الرغبوية، التي لا تستند إلى حقائق وإحصائيات، فضلاً عن تعريفهم لأحوالهم بدلالة الآخر، باستغراقهم في بحث أزمات الرأسمالية، من دون إدراك الأزمات العضوية التي تعشش في منظوماتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ يبحثون عن ثغرات الديمقراطية، وبعض مظاهر العنصرية، وحتى تزايد نسبة البطالة، وتراجع مستويات التعليم، في حين لا يتحدثون عن أي من ذلك، وضمنه الافتقاد لحقوق المواطنة، جملة وتفصيلا في بلدانهم، وضمن ذلك انعدام الخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم والبنى التحتية. اللافت أيضا أن تلك التصورات والتحليلات تؤكد وجهة نظرها بالاعتماد على كتّاب أو مثقفين أو مفكرين أميركيين، مثل زبينغيو بريجنسكي أو بول كندي أو فريد زكريا أو توماس فريدمان، إلخ، من دون أي تمييز بين الحديث عن ظواهر سلبية بهدف تجاوزها، وبين اعتبار ذلك حقيقة راسخة لا محيد عنها، في محاولة لإسقاط واقع الولايات المتحدة على الواقع في العالم العربي، أيضا. يتناسى هؤلاء أن من سقط فعلا في تلك التجربة هو الاتحاد السوفييتي (السابق)، ومعه جملة دول المنظومة “الاشتراكية”، وليس الولايات المتحدة الأميركية، لسبب بسيط هو البنية الصلبة، أو الاستبدادية، للنظام السوفييتي المغلق على ذاته، في حين استطاعت النظم الرأسمالية أن تتجاوز أزماتها التي مرت بها طوال القرن العشرين، وحتى الآن، وذلك بسبب مرونتها وعقلانيتها، فهي التي أصبحت المنتج الأكبر للعلوم والتكنولوجيا في العصر الحديث. وكان المفكر الاقتصادي فؤاد مرسي تحدث عن ذلك بكل وضوح، قبل حوالي عقدين، في كتابه المتميز: “الرأسمالية تجدد نفسها”. وهذا بريجنسكي (المستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي)، مثلا، تحدث عن انهيار الاتحاد السوفييتي، بشكل مبكر، وفق حقائق كرّس لها كتابه الشهير: “بين عصرين”، الذي صدر قبل عقدين من حدوث ذلك (1970)، مؤكدًا أن الولايات المتحدة ستكسب المباراة بفضل النموذج الذي تمثله، ولأن الاتحاد السوفييتي يعاني أزمات مزمنة بنظامه السياسي المغلق، وافتقاد مواطنيه للحرية، وتخلفه التكنولوجي. في المحصلة فقد انهار الاتحاد السوفييتي، والمنظومة الاشتراكية، ومعهما انهارت علاقات الحرب الباردة وأحزابها وترسانتها الأيديولوجية، من دون حرب، ومن دون أن تخسر الولايات المتحدة جنديا واحدا، فقد لعبت “القوة الناعمة” وجاذبية النموذج ووسائل الإعلام دورها. بعد الاتحاد السوفييتي، حملت إيران راية التبشير بانهيار الولايات المتحدة، وتحدّيها، باعتبارها زعيمة “الاستكبار العالمي”، و”الشيطان الأكبر”، إلى حد أنها باتت تعتبر ذاتها أهم وأقوى دولة في العالم. لكن إيران، في غضون ادعاءاتها تلك كانت تتعامل بطريقة عملية تخدم مصالحها، ما تكشّف في تواطؤها مع الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، ثم بتسهيلها صفقة تدمير “الكيماوي” السوري، وإبرامها الصفقة المتعلقة ببرنامجها النووي. المشكلة الأخرى في هذه التصورات النمطية تجاهلها أن الدول الديمقراطية، مهما كان رأينا بديمقراطيتها أو بسياساتها الداخلية أو الخارجية، تشتغل في الأغلب وفق مبادئ المصلحة والعقلانية، وعلى أساس التقاطع بدل القطع، والاعتماد المتبادل بدل الصراع المتبادل، في العلاقات الدولية، وهذا ما يفسر التشابك الاقتصادي، وعلاقات الاعتمادية الهائلة بين الصين والولايات المتحدة، رغم التنافر بينهما. على ذلك فإن ما قد يعدّ تراجعًا في سياسة الولايات المتحدة، وفق ثوابتنا، يقع من منظورها في إطار مراجعتها لذاتها ولدورها وللعالم، وما نظنه خسارة قد تراه بمثابة ربح لها، وضمن ذلك تقليل كلفة أعبائها الخارجية، وحثّ الآخرين (روسيا والدول الأوروبية وإيران وتركيا) على تحمل مسؤولياتهم. المعنى أن القصة تتعلق غالبًا بترتيب أولويات، ففي منطقتنا ظلّت سياسة الولايات المتحدة، لعقود، ترتكز على أربعة أسس: أمن النفط، وضمان أمن إسرائيل وتفوقها، وحماية الأنظمة “الصديقة”، وعدم السماح لقوة أخرى بالسيطرة على المنطقة، لكنها مؤخّرا أخضعت لتعديلات، تتمثل بالتخفّف من بعض النظم “الصديقة”، والسعي لإشراك آخرين في تحمل كلفة القلاقل والاضطرابات في الشرق الأوسط. ولعلّ هذه التعديلات دليل اطمئنان الولايات المتحدة لمكانتها كقوة عظمى، توزّع الأدوار على الآخرين، وتكيّفهم مع سياساتها ومصالحها، ما يفسّر تعاطيها مع أدوار روسيا وإيران وتركيا في الشرق الأوسط. الآن، بات بيننا وبين كتاب بول كندي: “صعود وهبوط القوى العظمى”، الذي تنبأ فيه بهبوط مكانة الولايات المتحدة، بسبب أعبائها الخارجية وإنفاقها العسكري، حوالي ثلاثة عقود، في حين ما زالت الولايات المتحدة تتربع على عرش الاقتصاد العالمي، الذي تمتلك ربعه أو خمسه، مع تفوق هائل، أو فجوة لصالحها، في مجال العلوم والتكنولوجيا، كما في مجال القوة العسكرية. وربما يكفي للدلالة على ذلك أن تغريدة من الرئيس ترامب يمكن أن تخفض عملة عدة دول بما فيها الروبل الروسي واليوان الصيني والين الياباني واليورو الأوروبي، ناهيك عن العملة الإيرانية أو التركية، وأن الصين صاحبة الاقتصاد العالمي الثاني لا يمكنها فك ارتباطها بالاقتصاد الأميركي، وأن بضع مئات من الجنود الأميركيين يسيطرون على أهم منطقة في سوريا، شرقي الفرات. لذا وباختصار، فبحسب فريد زكريا، فإن الولايات المتحدة حافظت على مكانتها كقوة عظمى طوال العقود الماضية، وأن القصة لا تتعلق بهبوط مكانتها وإنما بـ”صعود البقية”، بعد التعافي من الحرب الثانية، كاليابان وألمانيا، وبعدهما الصين. في حين أن بريجنسكي يرى مبالغة في الحديث عن اضمحلال الإمبراطورية الأميركية، كما حصل مع غيرها، كونها متماسكة داخليا، ولأن تخصيص 7 في المئة من دخلها القومي للنفقات العسكرية لا يشكل عبئًا عليها، فضلاً عن أنها بعيدة عن أية تهديدات حربية مباشرة، ناهيك عن وجود أبعاد متعددة للقوة لديها، عكس الاتحاد السوفييتي السابق الذي اعتمد على البعد العسكري. نعم ثمة في الولايات المتحدة مئة مشكلة ومشكلة، فهي ليست “الجمهورية الفاضلة”، لكن ثمة مئات المشكلات في البلدان الأخرى، لذا فهي، وبغض النظر عن رأينا فيها، ستبقى، أقله في المدى المنظور، بمثابة قوة عظمى وحيدة في عالم متعدد الأقطاب، بسبب ميزاتها وحيويتها.
مشاركة :