(ولم ينته الشوق لأن الفرح بعد كل ألمٍ.. ذلك العزف الرشيد على آلة الحياة.. التي نحبها ونرقص بمرح لا ينتهي بانتهاء النهار) تراكضوا.. امتدّ ظلهم بظل النعش الذي قطع كل الطرق الضيقة، التكبير سبق شفاههم والكل في مدينة الغياب فقد الجهة التي يحب. ! مرّ اليوم سريعًا، وغبار المقبرة لازال متمسكًا بثياب خالد، دون ان ينبس بشفة، حبس دموعه في عينيه، أراد أن يصرخ لكن صوت اخته ليلى سبق صراخه، حيث دخلت عليه داره وهي تغالب دموعها، متحلية بالصبر مواسية لأخيها الوحيد، بعد فقد عامود البيت وغطاه.كان التاريخ في الذاكرة صعب لكنه ليس ضمن التواريخ المنسية، لأنه يخص والد ليلى وخالد.فالسنوات العشر التي انقضت وعامود البيت بعيد، هي سنوات علمت خالد كيف يصنع من الحرمان بيتًا دافئًا، مرح فيه الأطفال وكبروا، ولازال الجد متوسطًا الدار في صورة كبيرة علقها خالد في قاعة الجلوس التي يستقبل فيها الضيوف، وفي كل مرة يزوره ضيف جديد يتباهى بأبيه ويعدد مناقبه الحسنة دون أن يخجل، ومثله كانت ليلى حفظت لأبيها ما حفظه خالد، والحكاية لم تنته، لأن أبناء ليلى وخالد، مدوا بوحدتهم جيلاً جديدًا كان للجدة فيه فرح الأبناء والبنات، ومر العمر ليصبح خالد وليلى في عمر والدهما عندما ودعهم إلى الرفيق الأعلى.وكأن النعش ذلك السر الذي خبأه الزمن لخالد وليلى في رحيل والدتهم التي لم تبكِ يومًا حفاظًا على فلذة اكبادها، بل سطّرت فوق كل رحيل محب ملحمة جديدة لحكاية علمتها للأجيال التي تعاقبت على سنوات عمرها، والدرس لم ينته لأن المسافات التي علمت الطيور كيف تقطعها، هي نفسها تلك المسافات التي امتدت لتعلم الأجيال أن فقد الأب أو الأم ليس كمثله فقد، فالبيت الذي لم يكن له ساس متين تهايل منتصف عمره واضاع ساكنيه في العراء.إنحدرْ.. قالها خالد بصوت ضعيف: إطرقْ البابَ ولو في الحلم يا أبي، لأن بعد رحيلك التحقت بك امي، فهل علمت إن الذي مشى فوق نعشك هو ذلك الذي علمته القسوة إن لكل داء دواء، وإن لنا في الأحلام غاية تعيد لضعيفنا الفرح وتمده بالإرادة والصبر.اما ضعيفنا فهو الذي غادرنا قبل أن تُغادرنا يا والدي، فالأحباب عندما يرحلون يتركون في قلوبنا حسرة الفقد وعودة الصحوة في السؤال لماذا نحن نعيش فوق تبانة كالسفينة تخوض بنا البحر وتوشمنا بالصراع!رسائل تداولها خالد مع اخته ليلى، لتصبح بعد سنوات عدة حكاية جددت في القلوب الضعيفة صحوتها للحياة، بعودة النبض لها، والكتابة فوق جدار صلب أو حجر لا يلين! مدركين كل ما حولنا هو ذلك النعش الذي لا يخيف أكثرنا! لكنه يذكرنا بالذي قد ينسينا واجبنا، إن لم نكن ممسكين بالصحوة.. فقدنا رشدنا واضعنا الطريق ودخلنا دهاليز ضيقة، يضيع فيها ضعيفنا ويسبقنا من يعلم إن في المسافات الطويلة وحزننا الشديد في الحَجْر، يغيض من فيروس وجعنا، فينتحر قبل أن ننتحر! لأننا والشجر في علو قامتنا ذلك الأختبار الصعب في زمن القسوة واللهث وراء سراب بعيد. a.astrawi@gmail.com
مشاركة :