متلازمة "الخوف من أن يفوت شيء" تحكم مجتمعات الترف | | صحيفة العرب

  • 6/27/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

فرضت المجتمعات الاستهلاكية نوعا جديدا من الاستهلاك يدعى الاستهلاك الترفي الذي لم يعد مقصورا على طبقة دون غيرها، بل يشمل جميع الفئات المجتمعية التي باتت تلجأ إلى الاقتراض الذي أصبح ديدنا، ليس لمواجهة التزامات مالية طارئة وإنما للإنفاق على الكماليات. لندن - "شخصت حالتي بهوس التسوق القهري، كانت أول مرة أسمع المصطلح منذ سنين من طبيبي النفسي، لقد غرقت في الديون، لم يكن الأمر طبيعيا، تحولت من شراء ملابس على الموضة قبل أن تصل إليها صديقاتي إلى شراء أشياء لا أحتاجها ولا أظنني سأحتاجها يوما” تقول عبير (28 عاما). وتضيف “حصلت على عمل جيد في بنك وأصبحت مهددة بالطرد بسبب إدمان القروض، إن مدمن التسوق لا يهتم إلا بالشراء بحد ذاته، وبلحظة الإثارة التي تسبق امتلاك الشيء، والراحة التي تلي ذلك”. لا تختلف حالة عبير كثيرا عن غيرها من بنات جنسها ومن هنّ في عمرها إذا توفرت لهن الإمكانيات الملائمة، إنه مجتمع الترف الاستهلاكي. وقد أصبح الهوس بكل ما هو “جديد” يهدّد التوازن النفسي لكثيرين ويدفعهم لإشباع رغباتهم الذي يتحقّق مع الاستهلاك، وفي حال عدم القدرة، يظهر “الخوف من أن يفوت شيء” أو FOMO -fear of missing out-، وهي مجموعة من الأعراض النفسيّة التي تتمثّل بالقلق والحاجة للمعرفة، والسعي لضمان أنك دوما على اطلاع على ما يحصل في العالم. وهذه المتلازمة، تطالب بأن نكون دوما متصلين، نتابع ونعرف كل ما يحصل بين الآلاف من الإعلانات اليوميّة، الأهمّ أنها قد تجعلنا منبوذين لأننا لسنا على الموضة. لقد أصبح الاستهلاك قيمة اجتماعية، فالفرد لا يستهلك ما يريده فحسب، وإنما يستهلك ما يجد جيرانه وزملاءه يستهلكونه. وكان ثورشتاين فبلن أول من أشار في كتابه “نظرية الطبقة المترفة” إلى مجتمع الاستهلاك الترفي. وكانت بذور هذا المجتمع الجديد قد ظهرت في الولايات المتحدة منذ نهاية القرن الماضي، ولم ينظر إلى أثر الاستهلاك كقيمة اجتماعية في النظرية الاقتصادية إلا عندما كتب دوزنبري عن “أثر التقليد”، حين بيَّن أن استهلاك الفرد لا يتوقف على ذوقه وما يريده هو، بقدر ما يتأثر بما يستهلكه الآخرون، وبذلك أدخل فكرة التداخل بين أذواق المستهلكين في تحديد ذوق المستهلك. لم يعد التفاخر يقتصر على الطبقة المترفة فقط، إذ مكن الإقراض الطبقات المتوسطة والفقيرة من الحصول على الأموال ولم يعد التفاخر ميزة مقتصرة على الطبقة المترفة اليوم، بل إن دراسات كثيرة من الواقع المعيش تؤكد عزوف الكثير من الأثرياء عن تمييز أنفسهم عن الطبقة المتوسطة أو نمط العيش التقليدي. ومع تطور ورقي العادات بجانب الثورة الكبيرة في تسهيل “الإقراض” وحصول أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة على الأموال، كان لا بد لظاهرة التفاخر أن تجد محلها لدى هاتين الطبقتين، وهي الطبقات التي تشكل 80 في المئة تقريبا من إجمالي سكان أي مجتمع، وهي أيضا الطبقات الأقل إنتاجا والأكثر استهلاكا. وتؤكد المؤشرات الاقتصادية الرسمية الصادرة من البلدان العربية الخطر الذي يحدق بأبناء الطبقتين المتوسطة والفقيرة، ففي كل من مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة ولبنان والأردن وقطر والكويت، ترتفع سنويا معدلات “القروض” الاستهلاكية بجانب تدني الإنتاج المحلي، والإنتاج المحلي مقصود به إنتاج الفرد وليس إنتاج الدولة القائم على موارد طبيعية أو غيرها. وقد أصبح استملاك الأشياء ثمنا في مجتمعات الترف الاستهلاكي لفقدان الشخصية، فالأشياء المنتجة لم تعد تشكل شروط عيش ونشاط الإنسان، بل تحولت إلى مثيل له، أي أنّ الأشياء أصبحت هي المقياس الذي يحدد قيمة الإنسان وسمعته الحسنة وثقله وتأثيره على غيره أو أمثاله. وفي الشيء المؤنسن، وفق علماء الاجتماع، تظهر حظوة الإنسان وتاريخه الحقيقي وسيرته الاجتماعية وعناصر فرديته وحياته الإنسانية الواقعية. كل هذه القيم الإنسانية للشيء، أفقدتها طبيعة المجتمع الاستهلاكي التي أفرزتها أشكال حركة الملكية الخاصة في النظام الرأسمالي المعاصر، والتي راحت بدورها تعمل على خلق إنسانها الجديد ذي البعد الواحد والذي لم يعد الشيء بالنسبة له ذا قيمة، إلا إذا امتلكه أي استهلكه. والاستهلاك في المحصلة يتحول هنا من وظيفته الاقتصادية والاجتماعية، إلى عقيدة وذوق وسلوك وأسلوب حياة. استملاك الأشياء استهلاك من أجل الاستهلاك استهلاك من أجل الاستهلاك إذا كان الاستهلاك في سياقه العام يعني استخدام المنتوج الاجتماعي في عملية تلبية الحاجات الإنسانية، فإنّ الاتجاه الاستهلاكي في “المجتمع الاستهلاكي” هو ليس مجرد سعي للاستهلاك من أجل أن يكون الإنسان إنسانا، بقدر ما هو استهلاك من أجل الاستهلاك. ويعبر المجتمع الاستهلاكي في حقيقة الأمر عن الأفراد القادرين على الدفع. فعلى سبيل المثال: إن الإنتاج الغذائي في البلدان الغنية مرتبط بالطلب المليء، أي القادر على التسديد، وليس الطلب المعدّ لحاجات الإنسان الأساسية. الاستهلاك الحيواني في البلدان الغنية، مؤمن قبل الاستهلاك البشري، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إن ما تأكله حيوانات الدول المتقدمة من الحبوب، يساوي ربع إنتاج العالم أي ما يعادل استهلاك سكان كل من الصين “مليار و400” مليون نسمة. أما في فرنسا، فإن استهلاك الحريرات اللازمة لـ”ثمانية ملايين كلب وسبعة ملايين قط” يوازي استهلاك سكان البرتغال. وما يلقيه الأميركيون المترفون خلال عام في قماماتهم من فوائض، يكفي لإطعام مدة شهر مجمل بلدان أفريقيا. وقد كثر الكلام عن المجتمع الاستهلاكي ولاسيما مع ما رافق العولمة من عولمة أخرى ثقافيّة يسيطر فيها نمط حياتي، أورو – أميركي، إذا ما جاز التعبير، تميل الكفّة فيه إلى الأسلوب الأميركي في العيش بكلّ ما ينطوي عليه من نظرة إلى الحياة والكون. يؤكد علماء الاجتماع أن موضوع المجتمعات الاستهلاكيّة ليس بجديد، وأنه رديف الرأسمالية وتطوّرها، التي توقّف عمالقة الفكر والفلسفة والاقتصاد عندها، إلا أن الأبعاد الجديدة للاستهلاك في عصر العولمة هي التي أدّت إلى إعادة النظر في جوهر الاستهلاك الرأسمالي وأنماطه وتأثيراته على المجتمعات كافة. ثقافة الاستهلاك بين السلوك الاجتماعي والثقافة العالمية الهوس بكل ما هو "جديد" وتاريخيّا، فقد تم التمييز ما بين القيمة الاستعمالية للسلعة التي ترتبط بتقدير الشخص لها ومدى ما تقدّم له من نفع، وقيمتها التبادلية التي تعبّر عن قيمة هذه السلعة في السوق، وكذلك حول تشكيل السلعة، التي تتمتّع بقيمة كبيرة في الاستعمال من دون أن تتمتع سوى بقيمة زهيدة في المبادلة، جوهر الثقافة الرأسمالية وعملية الإنتاج الرأسمالية الداعمة لقيمة الاستهلاك، بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح. إلا أن نموّ الشركات المتعدّية للجنسيات وقدراتها الهائلة على النفاذ إلى الأسواق الوطنية والسيطرة عليها، فضلا عن النموّ الهائل لشبكات التواصل والاتصال، كلّ ذلك بدا من أبرز أدوات العولمة الراهنة لنشر ثقافتها الاستهلاكية، خصوصا في البلدان النامية أو الفقيرة غير المحصّنة للصمود أمام إغراءات هذه الثقافة وسلعها. وباتت التناقضات بين اقتصادات هذه البلدان من جهة، وأنماطها الاستهلاكيّة من جهة أخرى، سمة بنيوية لهذه البلدان. البذخ رهين الاقتراض يلعب المجتمع الاستهلاكي العربي بجوانبه الترفيّة البذخيّة إذا، وارتباطه ببنيات اقتصاديّة منها العامل الريعي دورا كبيرا، هذا المجتمع يولّد مواطنين على نسقه. ويلجأ المواطن العربي في حالات كثيرة إلى الاقتراض لزيادة استهلاكه الترفي، خصوصا مع انتشار قروض الاستهلاك، التي بدأت المصارف بتعميمها ونشرها بدءا من الثمانينات وبفوائد منخفضة. بحيث لقيت هذه القروض الاستهلاكية إقبالا كبيرا من الأفراد والعائلات في العالم العربي تعويضا عن ضعف مقدراتهم الشرائية وغلاء الحياة اليومية من جهة، وانتشار السلع الاستهلاكية والكمالية من جهة ثانية، في الوقت الذي تعوّض فيه هذه القروض عن نقص الأجور والإدخار، وتشكّل بالنسبة إلى المصارف آلية لتوظيف رؤوس الأموال توخّيا من تراجع قيمتها في حال تزايدها بشكل يفيض عن حجم الاستثمار. وتحذر البنوك بين الفينة والأخرى من إدمان البعض على الاقتراض، سواء لمواجهة التزامات مالية طارئة أو للإنفاق على الكماليات وليس على أساسيات ومستلزمات الحياة الضرورية جدا، مما يؤدي بهم إلى الوقوع في إشكاليات مالية عدة. الاستهلاك تحول إلى عقيدة وذوق وسلوك وأسلوب حياة الاستهلاك تحول إلى عقيدة وذوق وسلوك وأسلوب حياة يؤدي الاقتراض غير المسؤول إلى عدم القدرة على سداد المديونيات والالتزامات المالية، والذي بدوره يؤدي إلى الوقوع في مشكلات مالية أكبر وتعقيدات أعمق تمتد إلى فقدان المنازل أو مواجهة دعاوى قضائية. ويعود سبب الاقتراض اللامسؤول في معظم الحالات إلى غياب التخطيط المالي السليم. وحذرت دراسة أكاديمية من تحول الشخص المقترض إلى “مدمن” على قروض استهلاكية، وذلك لمواكبة نمط الاستهلاك في المجتمعات، التي تتخذ من ‘المظاهر’ و’الماركات’ معيارا لتصنيف الناس وتقييمهم. وبينت دراسة “الاستهلاك الترفي: مجتمعات الخليج العربي نموذجا” قام بها اثنان من أساتذة علم الاجتماع بجامعة الكويت د.علي الزعبي ود.فواز العنزي أن القروض الترفيهية والاستهلاكية تستحوذ على نسبة كبيرة من حجم مديونية الأفراد في دول مجلس التعاون الخليجي، كما أن إدمان القروض قد يدفع الأفراد إلى حلول كارثية عبر التنقل من بنك إلى آخر، ومن قرض إلى آخر، ما تنجم عنه عواقب وخيمة تصل إلى تهديد الأمن الاجتماعي واضطرابات نفسية عدة. ولفتت الدراسة إلى أن النمط الاستهلاكي بدول الخليج العربي مثلا أدى إلى هدر الثروات المالية واستنزاف الموارد في استهلاك الكماليات، محذّرة من تآكل الفائض المادي والاجتماعي، في حال استمرار “شره الاستهلاك” الذي يقابله غياب الصناعة والإنتاج. وبلغ حجم القروض الاستهلاكية في دول التعاون 394 مليار دولار في السنوات الأخيرة، وقد تصدرت السعودية حجم القروض، بواقع 86 مليار دولار، تلتها الكويت بـ43 مليار دولار، و34 مليار دولار للإمارات التي حلت في المرتبة الثالثة خليجيا، بينما كانت البحرين والسلطنة الأقل طلبا على هذه القروض، علما بأنها سجلت ارتفاعا ملحوظا قدر بـ88 مليار دولار خلال 2013 ـــ 2014. الاستهلاك أصبح قيمة اجتماعية الاستهلاك أصبح قيمة اجتماعية شره الاستهلاك بيّنت الدراسة أن الاستهلاك الترفي الخليجي يتأصل في الطفولة، وأن للأسرة دورا أساسيا في غرس قيم الوعي الاستهلاكي، مشيرة إلى أن 54 في المئة من الأسر السعودية تنفق نحو ربع دخلها على مستلزمات أطفالها، و28 في المئة من تلك الأسر تستهلك مستلزمات أطفالها ثلاثة أرباع الدخل إلى الدخل كله، بينما لم تشكل مستلزمات الأطفال سوى أقل من ربع الاستهلاك لدى 12 في المئة من الأسر، ومن هذه المعطيات يمكن الجزم بأن معدلات الإنفاق الكبيرة تنعكس بشكل أو بآخر على نمط التنشئة الاستهلاكية للطفل الخليجي. وكشفت أن حجم الإعلانات في دول الخليج بلغ مليارين و584 مليون دولار، بنسبة 57 في المئة من إجمالي حجم سوق الإعلانات العربي، وخليجيا، أنفقت السعودية والإمارات 40 في المئة من إجمالي الإنفاق الإعلاني بمبلغي 913 و911 مليون دولار لكل منهما على التوالي، لتأتي الكويت في المرتبة الثالثة بـ435 مليون دولار في العقد الأخير، فضلا عن 118 مليونا لقطر، 104 ملايين لعمان و103 ملايين دولار للبحرين.

مشاركة :