عبد الله الحسيني: بحثنا في الجزء الأول من هذا المقال بخواطر متعددة عن العشر الأواخر، حاولنا فيها أن نجيب عن أسئلة ثلاث: هل أنا مستعد للعشر الأواخر من رمضان؟ لماذا أستعد للعشر الأواخر من رمضان؟ متى أستعد للعشر الأواخر من رمضان؟ ويبقى السؤال الأهم: كيف أستعد للعشر الأواخر من رمضان؟ يقوم الاستعداد الحقيقي المثمر على ثلاثة أركان: الركن الأول: رغبة كالجبل: بمعنى أن تمتلك إرادة حقيقية قوية نابعة من أعماقك بضرورة الاستعداد لما أنت مقبل عليه. الركن الثاني: تخطيط وعمل: بمعنى أن تخطط جيدًا لما تستعد له بتحديد هدف واضح معين، ثم تضع الخطوات والإجراءات الكفيلة بتحقيق الهدف، ثم تنفذ تلك الخطوات في الواقع العملي. الركن الثالث: صبر وأمل: بمعنى أن تكون صابرًا على جميع العقبات الداخلية والخارجية التي ستواجهك في سبيل ما تستعد له، مع ضرورة التحلي بالروح الإيجابية وحياة مشرقة بالأمل. ولذلك فإن الاستعداد للعشر الأواخر من رمضان على قسمين: استعداد واجب: ينبغي للمسلم أن يلتزم به في شهر رمضان المبارك وغيره. استعداد مستحب: يستحب للمسلم أن يستعد به طلبًا لمزيد من الأجر والثواب وإدراكًا لفضيلة ليلة القدر. أولاً: الاستعداد الواجب: 1-أن تؤدي ما أوجب الله عليك من العبادات القولية والفعلية، ومن أهمها: الصلاة المفروضة، وصيام رمضان، والزكاة، وزكاة الفطر. 2-أن تجتنب جميع ما حرم الله عليك من الأقوال والأفعال، فلا يعقل أن تتقرب إلى ربك بترك المباح كالطعام والشراب، ثم لا تتقرب إليه بترك ما حُرِّم عليك في كل حال، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) (1)، وقال: (رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ) (2)، والصائم مأمور بحفظ لسانه حتى وإن تعرض للأذى من غيره، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) (3). ثانياً: الاستعداد المستحب: ويتمثل في الهدي النبوي في العشر الأواخر من رمضان: 1-أن تخصّ جميع زمان العشر الأواخر من رمضان ليله ونهاره بمزيد من الاجتهاد والعبادة، فعن أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ) (4)، وقالت: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ) وفي لفظ: (وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ) (5)، (وقد قال الشعبي في ليلة القدر: ليلها كنهارها، وقال الشافعي في القديم: أستحبُّ أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها، وهذا يقتضي استحباب الإجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر، ليله ونهاره، والله أعلم) (6). 2-أن تحيي الليل بالتراويح أو القيام، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (7)، وقال: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (8)، واحرص بالنسبة لصلاة التراويح أو القيام ألا تفوت على نفسك ثواب قيام ليلة كاملة بأن تصليها تامة مع الإمام حتى ينتهي منها، قال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: (إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ) (9). 3-أن تكثر من قراءة القرآن الكريم ليلاً ونهارًا، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ) (10)، وهكذا كان السلف الصالح يقرؤون القرآن في رمضان في الصلاة وغيرها، وكان لأبي حنيفة والشافعي في رمضان ستون ختمة في غير الصلاة، وكان بعضهم يختم القرآن كل ليلة من ليالي العشر، وربما أشكل على بعضهم ثبوت النهي عن قراءة القرآن الكريم في أقل من ثلاث، (وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن، اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم) (11) ا.ه. 4-أن تعتكف في المسجد، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) (12)، وحقيقة الاعتكاف: قطع العلائق عن الخلائق للإتصال بخدمة الخالق (13)، ومذهب جمهور الفقهاء بأن الاعتكاف يتحقَّق ولو نوى المسلم مكث جزء من الزمن في المسجد، وإن كان المستحب والأكمل والأفضل لديهم ألا يقل عن يوم وليلة (14)، وقد صحّ عن الصحابي الجليل يعلى بن أمية رضي الله عنه أنه كان يقول: (إِنِّي لَأَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ السَّاعَةَ، وَمَا أَمْكُثُ إِلَّا لِأَعْتَكِفَ) (15). 5-أن تكثر من الجود، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ)، والجود معناه الاستكثار من سائر أنواع الخير، كالإنفاق، وحسن الخلق، وبر الوالدين، وبذل الخير، ونشر العلم، والجهاد في سبيله، وقضاء حوائج الناس، وتحمل أثقالهم، ومناصرة المستضعفين ودعمهم، والعمرة في رمضان، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي) (16)، وإفطار الصائمين، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا) (17)، وغير ذلك. 6-أن تكثر من الدعاء والاستغفار، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ -وفي لفظ: (مَا أَدْعُو؟)- قال: (قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي) (18)، وقد امتثلت عائشة رضي الله عنها لهذا الإرشاد النبوي، فكانت تقول: (لَوْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَكَانَ أَكْثَرَ دُعَائِي فِيهَا أَنْ أَسْأَلَ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ) (19)، وهذا من أفضل الأدعية، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (تَسْأَلُ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، ثُمَّ أَتَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (تَسْأَلُ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، ثُمَّ أَتَاهُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (تَسْأَلُ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّكَ إِذَا أُعْطِيتَهُمَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أُعْطِيتَهُمَا فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ أَفْلَحْتَ) (20)، والدعاء مستجاب أثناء الصيام، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ)، وفي لفظ: (وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ) (21)، وخصوصًا قبل الإفطار، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ) (22)، فينبغي عليك أن تكثر من الدعاء بصلاح دينك ودنياك وآخرتك، ولا تنس أن تخصّ والدَيك وأهلك ومعارفك وإخوانك المسلمين في كل مكان بدعوات صالحات. 7-أن تشارك أهلك وأقاربك ومعارفك ومن حولك معك في العبادة، وتعينهم عليها، وتحثهم إليها، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ)، وفي هذا جانب تربوي عظيم، فبإصلاح الأسر تصلح المجتمعات، وبإفسادها تفسد. وأختم بدرة ذهبية للإمام ابن رجب الحنبلي حول الهدي النبوي في العشر الأواخر من رمضان حيث قال: (قد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتهجَّد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتَّلة، لا يمرُّ بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوَّذ، فيجمعُ بين الصَّلاة، والقراءة، والدُّعاء، والتَّفكر، وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها، والله أعلم) (23) ا.ه فالسعيد والله من استعد لهذه العشر، واغتنم أثمن لحظات العمر، وفاز بجائزة ليلة القدر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من السعداء الفائزين. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. (1) رواه البخاري في الصحيح (1903). (2) رواه أحمد في المسند (8856)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (3490). (3) رواه البخاري في الصحيح (1904)، ومسلم في الصحيح (1151). (4) رواه مسلم في الصحيح (1175). (5) رواه البخاري في الصحيح (2024)، ومسلم في الصحيح (1174). (6) لطائف المعارف (ص 204) لابن رجب الحنبلي. (7) رواه البخاري في الصحيح (2009)، ومسلم في الصحيح (759). (8) رواه البخاري في الصحيح (1901)، ومسلم في الصحيح (760). (9) رواه أحمد في المسند (21419)، وأبو داود في السنن (1375)، والترمذي في السنن (806)، وقال: (حديث حسن صحيح)، والنسائي في السنن (1364)، وابن ماجه في السنن (1327)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (1615). (10) رواه البخاري في الصحيح (6)، ومسلم في الصحيح (2308). (11) لطائف المعارف (ص 171) لابن رجب الحنبلي. (12) رواه البخاري في الصحيح (2026)، ومسلم في الصحيح (1172). (13) لطائف المعارف (ص 191) لابن رجب الحنبلي. (14) الموسوعة الفقهية الكويتية (5/213). (15) رواه عبد الرزاق في المصنف (4/345) بإسناد صحيح. (16) رواه البخاري في الصحيح (1863)، ومسلم في الصحيح (1256). (17) رواه أحمد في المسند (17033)، والترمذي في السنن (807)، وقال: (حديث حسن صحيح)، وابن ماجه في السنن (1746)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (6415). (18) رواه أحمد في المسند (25384)، والترمذي في السنن (3513)، وقال: (حديث حسن صحيح)، وابن ماجه في السنن (3850)، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (3337). (19) رواه النسائي في السنن الكبرى (10648) وعمل اليوم والليلة (878)، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (7/1011)، وقال: (الظَّاهر أنها لا تقول ذلك إلا بتوقيف). (20) رواه أحمد في المسند (12291)، والبخاري في الأدب المفرد (637)، والترمذي في السنن (3512)، وقال: (حديث حسن غريب من هذا الوجه، إنما نعرفه من حديث سلمة بن وردان)، وابن ماجه في السنن (3848)، وصحَّحه الألباني في صحيح الأدب المفرد (496). (21) رواه أحمد في المسند (8043)، والترمذي في السنن (3598)، وقال: (حديث حسن)، وابن ماجه في السنن (1752)، وابن حبان في الصحيح (7387)، وصحَّحه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (8030)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند وغيره. (22) رواه ابن ماجه في السنن (1753)، وحسَّنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (4/342)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه. (23) لطائف المعارف (ص 204) لابن رجب الحنبلي.
مشاركة :