أظهر الرئيس محمود عباس شجاعة يستحقها وتستحقه، برفضه محاولات الاتصال به من جانب عدة مسؤولين أمريكيين، بينهم نائب الرئيس مايك بنس، ووزير الخارجية مايك بومبيو. ولو حدث أن تجرأ الرئيس دونالد ترامب على أن يتصل به، فإنه سوف يرفض مكالمته أيضا. ما يجعل الأمر جديرا بالإنحناء له، هو أن هذا الموقف يبني قولا، ويضيف إليه. فهو يقول للقوة العظمى في العالم إنها ليست عظمى عندما تمارس ظلما، وإن الفلسطينيين ليسوا ضعفاء الى تلك الدرجة التي تجعلهم يُجبرون على التنازل عن حقوقهم المشروعة، وأن الولايات المتحدة لم تعد جديرة بدور الوسيط، وإنها لم تكن كذلك من الأساس، وإنها حتى ولو شاءت أن تدفع إسرائيل الى ارتكاب جرائم إضافية، فإنها لن تحظى بالشرعية، وإن الشرعية هي ما يرضى به أهل الحق لا ما تفرضه القوة،… الى غير ذلك من قول طويل. وهي شجاعة مؤسِسَة أيضا. ذلك أنها تعلم قادة الولايات المتحدة درسا مضادا للغطرسة. كما تعلم كل قادة الدول الأخرى، أن أولئك الذين يعتقدون أنهم يحكمون العالم من البيت الأبيض لا يملكون من قوة الفرض إلا ما يشاء الآخرون أن يُفرض عليهم. ولكي لا تبدو الشجاعة ناقصة، فإنها يحسن أن تتحصن بالاستعداد لما هو أبعد. ذلك أن أهل الغطرسة، لا يقبلون الإهانة بسهولة، وأنهم ينتقمون لكرامتهم المجروحة. وما لم يجد المظلوم سبيلا لرد الصفعة بمثلها، أو أن يزيد الأمور تعقيدا على الظالمين، فان الشجاعة قد تنتهي الى قصيدة شعر نقولها وتنقلب العاقبة على أسوأ منها. وللفلسطينيين جينات للشجاعة لم يتفحصها علماء المختبرات ولكن تفحصتها الشوارع والأزقة. ومنها انطلقت انتفاضاتهم وحربهم التحررية ومواجهاتهم الفردية حتى ولو انتهت الى استخدام الحجارة والسكين. ويحسب كل الذين يأملون بأن وراء العسر يسرا، أن المقاومة هي السبيل. وأن بوسع السلطة الفلسطينية أن تقلب الطاولة ليس على اتصالات البيت الأبيض، بل وأن تقلبها على إسرائيل حيث تفرض الشجاعة نفسها في مختبرات كل يوم. فما لم يكن الاحتلال مُكلفا فانه يستمر، ويزيد. تلك هي الحقيقة التي يحسن ألا تغيب عن كل حساب من حسابات المواجهة. شعب الخمسة ملايين في الأراضي الفلسطينية، هو نفسه شعب الخمسة ملايين داخل أراضي 48 و67. ولا شيء ينقصه إذا شاء أن ينقلب على الاحتلال والعنصرية. حتى الشهداء لا ينقصون إذا خرجوا من معركة كل يوم. وما لم يدرك العالم، وإسرائيل نفسها، أن التكلفة باهظة، فلا حل سيأتي، ولا دولة ستقام، ويظل الاغتصاب قائما. الرئيس عباس يستمد شجاعته من جيناته. كما يستمدها مثله كثيرون من القيادات الفلسطينية. بعضهم يتعقلن، وبعضهم يميل الى المسالمة، إلا أن عروقهم تظل تغلي، تحت وطأة “ما بعد كل شيء”. ففي النهاية، ثمة سجل. وسجلات الأحرار تظل تنشد الحرية والانعتاق، ليس شعرا، ولكن في حياة كل يوم. مبروك عليه من يقضي كما قضى ماجد أبو شرار وكمال عدوان وكمال ناصر ومحمد يوسف النجار، وغسان كنفاني وأبو جهاد وأبو علي مصطفى، والخالد أبو عمار نفسه. هؤلاء هم السجل، الذي لا سجل فلسطينيا يعلو فوقه. وهو سجل، يا ويلي، كم أنه طويل. وفي حدود “ما بعد كل شيء” لا يأخذ المرء معه إلا سجله. وخير أن يتضرج به، من أن يقبل هزيمةً أو ذلا. جرب، ما شاءت لك الدنيا أن تجرب. فللشجاعة مواسم وفصول. ولك أن تلعب بالبيضة والحجر، إلا أنك، إذ تحمل ما تحمل من عبء السجل، فجدير به هو أن يقول كلمته الأخيرة فيك، وأن يسطر اسمك في سجلات الآخرين. عندما تفهم إسرائيل ذلك، فستعرف أن القوة العظمى هي غضب الناس وثورتهم. وهي قادة شعبهم الذين يمتلكون الجرأة، ليس على ارتكاب الشجاعة وحدها، وإنما على المضي بها خطوة أبعد، حتى يحين الموعد الأخير. رصاصُ الجبن لا يقتل أحدا. إنه يُحيي ولا يُميت. ومبارك ذلك المظلوم الذي امتلك الشجاعة، وامتلك السجل، وامتلك الموقف الذي يظل يبني قولا ويُضيف إليه.
مشاركة :