في التاسع عشر من يونيو2020 أوردت الوكالة الوطنية العراقية للأنباء خبرًا مفاده «بحث قائد القوة الجوية العراقية مع رئيسة بعثة حلف الناتو في العراق وعدد من ضباط الحلف التعاون المشترك بين الجانبين والتحضير للمرحلة القادمة من التعاون وخاصة فيما يتعلق باستئناف عمل بعثة الحلف التدريبية»، كما تضمن اللقاء بحث سبل تطوير القوات الجوية العراقية.تعود بداية الاهتمام الأطلسي بالعراق إلى عام 2003 عندما وافق مجلس الحلف على طلب مقدم من ممثل بولندا باعتباره قائد القوات متعددة الجنسيات التي كانت تعمل في وسط وجنوب العراق آنذاك بأن يقدم الناتو خدماته إلى تلك القوات في مجالات الاستخبارات والدعم اللوجستي والمساعدة في تحركاتها والتنسيق ودعم المواصلات الخاصة بها، وفي قمة إسطنبول عام 2004 قرر الحلف إنشاء بعثة لغرض تدريب قوات الأمن بناءً على طلب الحكومة العراقية المؤقتة آنذاك، ومنذ عام 2004 وحتى 2011 قام الحلف بتدريب 15000 من قوات الأمن العراقية، وفي عام 2011 منح الحلف العراق صفة حليف خارجي، أما في عام 2012 فقد تم إقرار برنامج الشراكة والتعاون الفردي بين الحلف والعراق، وصولا إلى فبراير 2018 عندما قرر وزراء دفاع الحلف إرسال بعثة تدريبية إلى العراق وذلك بناءً على طلب الحكومة العراقية والتحالف الدولي لمواجهة تنظيم داعش، وأعلن مسؤولو الحلف أن لديهم خططًا لإنشاء أكاديميات ومدارس عسكرية متخصصة لكن من دون القيام بمهمات قتالية.ومع أهمية ما سبق فإن التطور الأهم قد تمثل في دعوة الرئيس ترامب حلف الناتو إلى لعب دور أكبر تجاه منطقة الشرق الأوسط في أعقاب مقتل الإيراني قاسم سليماني في يناير 2020 وهي الدعوة التي وجدت صدى إيجابيا لدى الحلف من خلال بيان لمجلس الحلف تضمن بأن الحلف لديه استعداد للإسهام في تحقيق الاستقرار الإقليمي ومواجهة الإرهاب الدولي.وتأسيسًا على ما سبق يثار تساؤل مهم للغاية مؤداه: هل هناك علاقة بين استراتيجية الحلف تجاه العراق وتوجهات الحلف إزاء منطقة الشرق الأوسط عمومًا؟ بمعنى آخر هل للحلف استراتيجية محددة الملامح تجاه منطقة الشرق الأوسط؟ وإذا كان ذلك صحيحًا فأين العراق من تلك الاستراتيجية؟هذه التساؤلات وغيرها تكتسب أهميتها في ظل استمرارية دأب بعض الكتابات على الربط بين مفهوم ودور الحلف إبان حقبة الحرب الباردة والتحولات الراهنة دون تمحيص التحولات التي طرأت على استراتيجية الحلف والتي يمكن من خلالها الوقوف على أهداف تلك المنظمة الدفاعية الأقوى في العالم.وباختصار كانت أوج تحديات الحلف في أعقاب انتهاء حقبة الحرب الباردة والتي كان على الحلف إما أن يتطور أو أن يكون مصيره التفكك على غرار حلف وارسو، إلا أن الحلف تكيف مع معطيات ما بعد انتهاء تلك الحرب من خلال تأسيس شراكات متعددة عبر مناطق مختلفة في العالم، ولكن قادة الحلف أدركوا أن تلك الشراكات بحد ذاتها ليس كافية، فأعلن الحلف خلال قمة وارسو عام 2016 استراتيجية جديدة مضمونها «نشر الاستقرار» وهي تأكيد تأمين مناطق الجوار من خلال دعم قدرات دولها، صحيح أن دعم القدرات العراقية يعود إلى عام 2004 إلا أن الحلف أراد تأكيد ضرورة أن يكون ذلك ضمن استراتيجية ممنهجة للحلف خلال السنوات المقبلة وتعد الحالة العراقية نموذجًا واضحًا لتطبيق تلك الاستراتيجية لأكثر من سبب فالعراق هو جزء من الأمن الإقليمي الذي يوليه الحلف أهمية بالغة من خلال مبادرة إستانبول التي أطلقها الحلف للتعاون عام 2004 وانضمت إليها أربع من دول الخليج العربي، من ناحية ثانية فعلى الرغم من أن قضية أمن الطاقة لم ترد صراحة ضمن البنود الستة لمبادرة إستانبول فإن تلك القضية تعد من أولويات الحلف وقد انعكس ذلك في المفهوم الاستراتيجي للحلف الذي يصدر كل عشر سنوات ونصف السنة على رؤية الحلف لتهديدات أمن الطاقة وتحديد آليات مواجهتها، ذلك الاهتمام الأطلسي الذي بلغ مداه مع أول تصريح يصدر عن الحلف تجاه إيران منذ سنوات في أعقاب الاعتداءات على المنشآت النفطية السعودية في سبتمبر 2019 إذ قال ينس ستولتنبرج الأمين العام للحلف: «إيران تزعزع استقرار المنطقة بالكامل» وأضاف: «ندعو جميع الأطراف إلى التوقف عن تكرار مثل هذه الهجمات لأنها قد تخلف آثارًا سلبية على المنطقة بأكملها، كما أننا نشعر بقلق كبير من التصعيد»، ومن ناحية ثالثة أنه إذا كان الأمن الإقليمي أمرا يهم الحلف فإن من آليات تحقيق ذلك الأمن دعم القدرات الأمنية والدفاعية للوحدات المكونة لذلك الأمن وهو ما يتسق مع استراتيجية الحلف في هذا الشأن. وبرأيي أن لعلاقة حلف الناتو بالعراق ثلاث دلالات استراتيجية الأولى: في ظل حالة عدم الاستقرار الإقليمي عمومًا وظهور مطالبات بتقليص القوات الأجنبية في العراق وهي التي كانت أحد بنود الجولة الأولى من الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق فإن الحلف سيكون له دور مهم في العراق بغض النظر عن ماهية ذلك الدور سواء التوسع في مهام تدريب قوات الأمن العراقية أو الاضطلاع ببعض أو كل مهام التحالف الدولي لمحاربة داعش في العراق، والثانية: ضمن الصراع الأطلسي - الروسي على أكثر من جبهة فإن للحلف مصلحة أكيدة في التأثير في مسار هذا الصراع في الجبهة الجنوبية للحلف والتي تضم دول الشمال الإفريقي والخليج العربي، في ظل الضغوط الروسية على جبهتي الحلف في وقت متزامن وهما أوكرانيا في الجبهة الشرقية وسوريا في الجبهة الجنوبية، والثالثة: أن نجاح حلف الناتو في دعم القدرات الدفاعية العراقية من شأنه تحقيق التوازن الإقليمي وكذلك ردع أي تهديدات إقليمية غير محسوبة وبخاصة تجاه أمن الطاقة.ولا يعني ما سبق أن الحلف يسعى إلى الوجود عسكريًّا خارج أراضيه، لأنه بغض النظر عن تعدد وتطور استراتيجيات عمل الحلف فإنه تحكمها أسس منها أن الحلف يفضل العمل ضمن أطر دولية وليس منفردًا إلا إذا شهدت مصالحه تهديدًا على نحو خطير، وحتى في ظل هذه الحالة فإن للحلف شروطا للتدخل العسكري خارج أراضيه.إن قرار حلف الناتو بافتتاح المركز الإقليمي لحلف الناتو ومبادرة استانبول في الكويت عام 2017 وتطور علاقة الحلف بالعراق مؤشران مهمان ليس فقط ضمن سياق تسارع وتيرة التحول في عمل الناتو خارج أراضيه وإنما على صعيد ملامح دور جديد للحلف تجاه منطقة الشرق الأوسط والتي ربما يحدد المفهوم الاستراتيجي الثامن للحلف والمزمع إصداره العام القادم ملامح ذلك الدور وهل سيظل متمثلا في التدريب والاستشارات أم أنه سوف يضطلع بمهام قتالية؟ { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :