لندن - في القرن الثالث عشر ميلاديا، وفي إحدى أشد الحقب اضطرابا في التاريخ الإيراني، غادر الشاعر سعدي الشيرازي مسقط رأسه شيراز للدارسة في بغداد، وجاب بعدها مشارق الأرض ومغاربها، ولم يعد إلى شيراز، مدينة الورود والبلابل، إلا بعد ثلاثة عقود، وكانت المدينة آمنة آنذاك. وبينما اشتهر شعراء فرس آخرون في القرون الوسطى بكتاباتهم المثيرة للعواطف عن العشق والفروسية ومآثر الأبطال وتحليل دخائل النفس الإنسانية ومكانة الإنسان في الكون، فإن سعدي الشيرازي كان، كما وصفه اللورد بايرون، “شاعر إيران الأخلاقي”. ورغم كثرة الاضطرابات والعنف في عصره، إلا أن سعدي الشيرازي كان يحدوه الإيمان والأمل في البشر، وشغلت القيم الأخلاقية والآداب حيزا كبيرا من كتاباته، واهتم بغرس السمات النبيلة في نفوس قرائه. يقول في إحدى كتاباته “لا تسأل زاهدا ضاقت به السبل يعاني تحت وطأة المجاعة، عن حاله، ما دمت لا تحمل مرهما لتضمد به جراحه أو مالا لتنفق عليه”. ورأى أن “الرجل الحر الذي يأكل ويتصدق خير من العابد الذي يصوم ويكنز ماله”. ويحمل كل من كتابيه “روضة الورد” و”البستان” الكثير من الأبيات التي تدل على صعوبة العصر الذي عاش فيه سعدي، كما يحويان الكثير من الحكم والمواعظ التي يمكن الاستفادة منها الوباء الحالي، حسب تقرير لهيئة الاذاعة البريطانية "بي بي سي" باللغتين العربية والإنجليزية.. وفي وقت سابق من ذاك القرن، هرب الشاعر جلال الدين الرومي من المغول بينما كان طفلا، تاركا مسقط رأسه مدينة بلخ، وسافر غربا مع عائلته. وكان هذا القرار حكيما، فلم يلبث بعدها أن قتل الشاعر الفارسي الصوفي عطار النيشابوري على يد المغول. لكن لا نعرف بعد ما إن كان سعدي، الذي غادر شيراز بعد مذابح المغول شرقي إيران، قد بدأ أسفاره لنفس السبب أم لسبب آخر، خاصة وأن الكثير من حكايات سعدي عن أسفاره قد لا تكون صحيحة تماما. كتابا الشاعر سعدي الشيرازي "البستان" و"روضة الورد" فيهما عدة نصائح قد تفيدنا في التعامل مع وباء كورونا المستجد كتابا الشاعر سعدي الشيرازي "البستان" و"روضة الورد" فيهما عدة نصائح قد تفيدنا في التعامل مع وباء كورونا المستجد إذ ذكر في “روضة الورد” و“البستان”، على سبيل المثال، أنه وقع أسيرا في يد الصليبيين في سوريا، وزار الصين والهند. لكن ديفيس يقول إن “حكاياته عن الأسر على يد الجيوش الصليبية وأنه استعبد لفترة من الزمن، يقال الآن إنها من نسج الخيال”. ويرى المؤرخ هوما كاتوزيان أن سعدي ربما سافر إلى سوريا وفلسطين والجزيرة العربية وليس خراسان أو الصين أو الهند. لكن من المؤكد أنه غادر إيران وعاد بعد فترة غياب طويلة محملا بقطوف من الحكم والأخبار والأفكار من مختلف البلدان. وتكشف كلماته عن أنه رجل معاصر متفتح، وليس صوفيا منعزلا. ولمّح سعدي في “روضة الورد” إلى أن بعض قصصه قد لا تكون حقيقية، لكن الهدف من رحلاته، كما ذكر لصديقه، كان الإمتاع وليس التعليم فحسب. ولهذا يحمل “البستان” و”روضة الورد” الكثير من سمات قصص الرحلات والمغامرات في ذلك الوقت، فلا تخلو هذه القصص من وصف لقطّاع الطرق والبحارة والقتلة والحكام المستبدين، وتضم أيضا بعض النوادر والقصص الطريفة. ويقول ديفيد روزينبوم في مقدمة ترجمة “روضة الورد” إلى اللغة الإنجليزية في القرن التاسع عشر “إن القارئ قد ينسى أنه يتعلم شيئا، وكأن دواء شعر سعدي مغموس في العسل“. وقبل عام من كتابه “روضة الورد” ألف سعدي كتاب “البستان”، وهو عمل شعري مكون من 10 فصول. في حين أن “روضة الورد” هو عمل نثري تتخلله أشعار، ويتكون من ثمانية فصول عن موضوعات مشابهة. ويرى سعدي أن الحرمان أفضل من أن يمد المرء يده للآخرين ويستدين. ويقول إننا ينبغي أن نتوخى الحذر فيما نتمنى، فقد تجعلنا أمنياتنا أسوأ حالا. ويرى أننا قبل أن نتهم الآخرين، يجدر بنا أن نحاسب أنفسنا، وأن السكوت من ذهب، وأن الثراء الروحاني خير من الثراء المادي، وأن القدر أقوى من الإرادة. وتستمد بعض آراء سعدي الشيرازي جذورها من الدين، لكن معظم نصائحه بشكل عام تصلح لكل زمان ومكان ولا تقتصر على إيران في حقبة العصور الوسطى فحسب. وكان سعدي الشيرازي من أوائل الشعراء الفرس الذين تصل شهرتهم إلى أوروبا، وترك أثرا واضحا في كتابات أدباء عصر التنوير والعصر الرومانسي في فرنسا وخارجها، ومنهم فولتير ودنيس ديدرو، ويوهان غوته وفيكتور هوغو، الذي اقتبس بعض فقرات من “روضة الورد” في ديوانه “الشرقيات”. وكان تأثير سعدي واضحا في رواية “زديغ” لفولتير. ويقول دكتور مظفر بخراد في كتابه “حظوظ سعدي الأدبية في فرنسا”، “إن شخصية ملك سرنديب ووزيره والمجتمع المثالي كلها مستلهمة من أعمال سعدي”. ويرى أن فولتير وجد في سعدي مرشدا حقيقيا في الفلسفة، إلى درجة أن “عدوه اللدود إيلي فريرون، كان يستخدم اسم سعدي للإشارة إلى فولتير في نقده اللاذع لأعماله”. وكتب الشاعر رالف والدو إيمرسون في الولايات المتحدة، قصيدة ثناء في سعدي، وأطلق عليه اسم “باعث البهجة في نفوس الرجال”، وعلق على الجاذبية العالمية لحكمه التي تدعو إلى الخير والإحسان باللهجة الفارسية، قائلا “إن سعدي يتحدث بلسان جميع الأمم، وكشأن هومر وشكسبير وثيربانتس وميشيل دي مونتين، ومونتينيو، فإن كتاباته تصلح لجميع العصور”. ولا تزال أبيات أشعاره عن وحدة البشر من كتاب “روضة الورد” تزين السجادة الفارسية بمركز الأمم المتحدة في نيويورك، وقد اقتبسها باراك أوباما في كلمته بمناسبة رأس السنة الفارسية في عام 2009. لكن ما الذي يمكن أن نتعلمه اليوم من دروس سعدي، إذ تضمن الكتابان “البستان” و”روضة الورد” بلا شك عدة نصائح قد تفيدنا في التعامل مع وباء كورونا المستجد. فقد حض سعدي قراءه في “البستان” على أن يكونوا كرماء مع المحتاجين، “حتى لا تطرقوا أبواب الغرباء”. وقال “إن لم تستطع حفر بئر في الصحراء، ضع على الأقل مصباحا في ضريح”. وذكرنا سعدي بأن ما نحتاجه أقل بكثير مما نأمله. وعندما قال ناقد لأحد الأولياء إنه سيبني له منزلا أفضل، سأله الولي “وما حاجتي بالسقف المرتفع؟ إن ما بنيته يكفيني للسكن وسأتركه حتما عند موتي”. ووبخ الطبيب الإمبراطور أردشير بابكان لأنه “يعيش ليأكل”، وليس العكس، وحكى سعدي عن مصير حيوان الشره (اللّقام)، الذي سقط من الشجرة من فرط البدانة. وينصح سعدي قراءه بأن يكونوا شاكرين للنعم التي لديهم ويحافظون عليها. ويقول “لا أحد يعرف قيمة العافية إلا من أنهكته الحمى. وكيف تشكو من طول الليل وأنت مستلق على فراشك الوثير؟”. ومرت سنوات عديدة منذ أن ألف سعدي الشيرازي “روضة الورد” و”البستان”، لكن، كما توقع بعد عودته إلى شيراز، حيث يوجد قبره وسط روضة غناء، فإن صحفات هذه الكتب الفارسية المليئة بالحكم والمواعظ ستبقى أثرا خالدا، أو كما قال سعدي “عمر هذه الأزهار مهما طال، فهو قصير، لكن هذه الروضة ستظل قطوفها عطرة أبد الدهر”.
مشاركة :