شعارات داعش والتراث الفقهي - د. إبراهيم المطرودي

  • 7/9/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كثيرون كتبوا عن التنظيم، والتمسوا أسباب إغرائه، وعللوا الفتنة به، وقدّموا الحلول في هذه النازلة، خاصة في معرفة واقع هؤلاء المهاجرين الذي يدعوهم إلى التنظيم، ويحضهم عليه، وواقع التنظيم الذي يملك قدرة غريبة في استقطابهم، وجرّهم إلى مواطن الفتنة، ومحالّ الهلكة، وأنا اليوم أُركز على واقع التنظيم، وأتناول سلاحا من أسلحته في الجذب، وقوة من قواه في التحشيد ما زالت داعش تجتذب أفرادا من المسلمين، وتُغريهم بالهجرة إليها، والنصرة لها، ولعل من أواخر ما سُمع خبر الأسرة الفلسطينية التي هاجرت بأطفالها إلى داعش، وتركت موطنها الأول. العالم يُحارب داعش، ويسعى في آثار رجالها للقضاء عليهم، وتهوين قوتهم، وقنوات التلفزة تنقل إلى الناس أخبار هذه الجماعة الإرهابية، وتضع بين أيديهم مشاهد القتل التي يقوم بها رجالها، وتُعدّ التقارير الإخبارية عنهم، وعما يأتونه في العراق وسورية، من إجرام وتعدٍّ، كل هذا يجري ثم تظهر للناس أخبار المهاجرين إليها، والذاهبين إلى ديارها، وهو أمر مثير حقا للاستغراب، ومُهيّج للتفكير. كنت أعجب، في مقالة مضت، من قدرة داعش على الصمود، وبقائها على قيد الحياة، وأفرادها رجّالة لا يملكون من وسائل النقل إلا السيارات، واليوم أعجب من تقاطر بعض المسلمين عليها، من دول عالمنا الإسلامي، ودول غيره، إنها ظاهرة حريّة بالدراسة والتفكير، وقمينة أن يُبحث وراء أسبابها، وطرق الوقاية منها؛ فنحن نسعى في الحرب على داعش لهدفين معا؛ الأول قمع داعش، والقضاء عليها، والآخر صرف الناس عن اللحاق بها، والانتماء إليها، الأول يعتمد القوة والبأس، والثاني يتكئ على فهم الدين، والتوعية الدينية به، والبصر بواقع الناس الذين يجتذبهم التنظيم، ويستطيع أن يُقنعهم بانضمامهم إليه، وتكبّد العناء إلى أراضيه، إنها مواجهة بالسلاح في الميدان، ومواجهة بالعقل في فهم الدين ونصوصه، والوعي بالواقع الموضوعي الذي يجعل من هؤلاء البشر لقمة سائغة لهذا التنظيم الإرهابي، ووقودا في معاركه. كثيرون كتبوا عن التنظيم، والتمسوا أسباب إغرائه، وعللوا الفتنة به، وقدّموا الحلول في هذه النازلة، خاصة في معرفة واقع هؤلاء المهاجرين الذي يدعوهم إلى التنظيم، ويحضهم عليه، وواقع التنظيم الذي يملك قدرة غريبة في استقطابهم، وجرّهم إلى مواطن الفتنة، ومحالّ الهلكة، وأنا اليوم أُركز على واقع التنظيم، وأتناول سلاحا من أسلحته في الجذب، وقوة من قواه في التحشيد، وكسب المناصرين، وهو سلاح الشعارات الدينية التي تمتلئ بها الأخبار عن هذا التنظيم، ويراها الناس حين يشاهدون أخباره، ويستمعون إلى آخر المستجدات في شأنه. لقد استطاع هذا التنظيم أن يُلبس ما يأتيه بالمصطلحات الشرعية، والألفاظ الدينية، واستطاع أن يُروّج لنفسه بهذه الشعارات، وبعض الناس ينخدعون كثيرا بالشعارات، ويميلون إلى تصديقها، وتصديق المدعي لها، فمن شعار تطبيق الشريعة، وإقامة الحدود، إلى شعار الجهاد ونشر الدين، وإظهار قوته، تلك مجموعة من الشعارات الدينية، والمصطلحات الفقهية، التي يستنجد بها التنظيم في إقناع بعض المسلمين، وبثّ سمومه بينهم، ومن الخير أن نستشعر خطورة هذا التقمص للشعارات الدينية، ونبذل جهدنا في كشف هذا الزيف الذي يعمد إليه التنظيم، ويجعله يُظهر نفسه بمظهر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فمن يسمع هذه الشعارات، ويراها في الإعلام، يخال نفسه يعيش في تلك الأزمان، وتلك خديعة كبيرة، ومكر كبّار؛ لكنها استطاعت أن تقنع جماعات، لا يجمعها وطن واحد، ولا تنتمي إلى ثقافة واحدة، وهذا يدفعني إلى التفكير في المشترك الذي يجمع هذه الجماعات، ويستطيع التنظيم من خلاله أن يستقطب هؤلاء المختلفين، ويأتي بهم من أصقاع مختلفة، وبيئات متنوعة، ومجتمعات متباينة، وحين نظرت في واقع داعش وجدت الشعارات الدينية المعلنة في داعش، والمروّجة عنها في الإعلام، هي أحد هذه المشتركات التي تسحر المنضمين إلى التنظيم، وتأتي بهم على اختلافهم إليه، وتجمعهم على تنائي بلدانهم. من بين المصطلحات الدينية المستغلة عند داعش مصطلح الجهاد، وجهاد الطلب خاصة، ولا زال الناس يذكرون محاصرة داعش لجبل سنجار، وسبيها النساء، واختطافها الرجال، وهذا الاستغلال واقع يدعو إلى النظر في هذه المفاهيم، وفحصها في ضوء النص الديني كله، وتأملها من خلال السيرة النبوية، ومبادئ السلام والرحمة التي دعا إليها الإسلام، فهذه الشعارات التي تقف وراءها داعش، وأولها رايتها السوداء المكتوب عليها كلمة التوحيد، مراد منها أن يظهر هذا التنظيم الإرهابي بمظهر الممثل للإسلام، والمذكّر بالنصوص الدينية، والنبوءات المروية. حين يعود المسلم إلى كتاب الله تعالى، يجد الآيات الصريحة والواضحة في ربط الجهاد بالعدوان، فالله تعالى يقول في سورة البقرة (وقاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) 190، فالأمر بالقتال هنا مقصور على من يقاتل، ويعتدي، وأما من لم يعتدِ فقد نهانا الله تعالى عنه بقوله: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) وجهاد الطلب الذي تتذرع داعش بإقامته هو من قبيل التعدي على المسالمين، والتجاوز لحدود الله، والله لا يحب المعتدين. ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة مرة أخرى في سورة البقرة حين قوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) 193 وتتضح كراهة الإسلام للاعتداء، وما يُسمّى جهاد الطلب، أن الله تعالى في هذه الآية جعل مقاتلة الظالمين من العدوان، ونحن نعلم أن مقاتل الظالم مدافع عن نفسه، ودارئ عنها غائلة عدوانه وظلمه؛ لكن الله سمّى هذه المدافعة عدواناً، ووصفها به، وما دام رد الظلم عدوانا، ومدافعة الظالمين كذلك، فماذا ستكون إذًا الإغارة على الآمنين الوادعين الذين لا يُشكلون خطرا على الإسلام، ولا على أهله ودعوته؟ وفي تأييد هذا المعنى، والتشريع له، أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجنح للسلم، ويعتصم بها، متى رأى من أعدائه، وأعداء دينه، ميلا إليها، وأخذاً بها، يقول الله عز وجل في سورة الأنفال بعد الأمر بالاستعداد، وأخذ الأهبة للقتال، (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) 61 فالله يأمر نبيه بالجنوح للسلم مع أعدائه، المحاربين له، والمضيقين عليه، وعلى دعوته، والذين تُخشى منهم الغدرة، ويُتوقع منهم الخداع (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين) 62 فكيف هي الحال مع الناس الذين لم يحاربوه، ولم يُضيقوا على دعوته، ولم يحيكوا المؤامرات ضده، ولم يفكروا في خداعه، أنقول: إن الإسلام يأمرنا بالجنوح إلى السلم مع المتربصين بنا، والمنتظرين لغفلتنا، وينهانا عن ذلك مع المسالمين، والموادعين؛ كما فعلت بهم ميليشيا داعش في جبل سنجار؟ ويتضح هذا المعنى مرة أخرى في سورة التوبة، فيظهر بوضوح أن الجهاد في الإسلام هو جهاد الدفع والدفاع، وليس جهاد الهجوم والطلب، يقول الله تعالى (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين) 36، فالأمر بالقتال هنا علته أن المشركين يقاتلون المسلمين، فما يقوم به المسلمون هو رد فعل لا أكثر، ومجازاة بالمثل، وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه "فقه السيرة":" القتال الذي شرعه الإسلام، وخاض معاركه الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته، هو أشرف أنواع الجهاد، وقد بينّا في كتبنا الأخرى بالاستدلال العلمي، والاستقراء التأريخي؛ أن الحروب التي اشتبك فيها الإسلام .. كانت فريضة لحماية الحق، ورد المظالم، وقمع العدوان، وكسر الجبابرة". وهذا الفهم هو الذي حدا بالشيخ أن يدع إيراد حديث البخاري ومسلم وغيرهما في غزوة بني المصطلق، ويكتفي بأثر رواه ابن جرير، وضعفه الألباني، فيقول: "ومن ثمّ رفضت الاقتناع بأن الحرب قامت وانتهت على هذا النحو، وسكنت نفسي إلى السياق الذي رواه ابن جرير... فهو على ضعفه _ الذي كشفه الأستاذ ناصر _ يتفق مع قواعد الإسلام المتيقنة؛ أنه لا عدوان إلا على الظالمين، وأما الغارّون الوادعون فإن اجتياحهم لا مساغ له". وممن يميل إلى هذا الرأي، ويذهب إلى أن حروب الرسول صلى الله عليه وسلم كانت حروب دفاع، ورداً للمظالم، ووقوفاً في وجه العدوان، وليست من قبيل الابتداء، أو ما يُسمى جهاد الطلب، الأستاذ العقاد في كتابه "عبقرية محمد"، ويقول في ذلك:"وحروب النبي عليه السلام .. كانت كلها حروب دفاع، ولم تكن حرب هجوم إلا على سبيل المبادرة بالدفاع بعد الإيقان من نكث العهد والإصرار على القتال، وتستوي في ذلك حروبه مع قريش، وحروبه مع اليهود أو الروم". والأخذ بهذا الرأي، والدعوة إليه، من جملة وسائل مقاومة داعش وإرهابها، ودحض شعاراتها أمام الناس، ويقوي الأخذ به، وإن عدّه الشيخ البوطي من الغزو الفكري في كتابه "فقه السيرة"؛ أن الجهاد اليوم كله بيد الدول، وهي جميعا داخلة في تحالفات دولية، وعهود أممية، فليس لإقرار ما يُسمّى بجهاد الطلب، وجعله جزءا من الإسلام، والدفاع عنه، معنى إلا التصريح لهذه الجماعات الإرهابية، الخارجة على المجتمعات كداعش وبوكو حرام أن تقوم بهذه الشريعة المنسية، وتحيي هذه السنة الميتة، وهذا من آثار بُعد الخطاب الديني عن الواقع الذي يعيشه المسلمون، والعالم الذي يعيشون فيه، ما يجعل هذا الخطاب، ورجاله المتحدثين به، والمسلمين في هذا العصر، يصدق عليهم قول العرب: يداك أوكتا، وفوك نفخ!.

مشاركة :