لماذا تستهدفنا داعش؟ - د. إبراهيم المطرودي

  • 6/4/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

إن دولتنا تُمثّل ثقلا دينيا في عالم المسلمين، فهي - مع احترام دولنا المسلمة كلها - تمثل رُبّان السفينة الدينية، ولها دور رئيس في إبطال مرض الطائفية في هذا العالم كله؛ فما تقوم به من إصلاح ديني، وتجديد في خطابه، لا يعود عليها، وعلى التنوع المذهبي والثقافي فيها، بل يعود بالخير على هذا العالم كله من الأسئلة التي تقوم في الأذهان، وتنهض في العقول حين مشاهدة ما تصنعه داعش بنا هذه الأيام، سؤال حول تخصيصها بلادنا دون غيرها من دولنا الخليجية _ حمى الله قادتها وشعوبها _ بهذه الاغتيالات التي تطال المصلين، وتقصد إلى الركع السجود؛ أبلادنا هي الوحيدة التي يسكنها إخوتنا الشيعة؟ أبلادنا هي الوحيدة التي تُحارب تمدد النظام الإيراني، وتقف تجاهه؟ أبلادنا هي الوحيدة التي تنشط في محاربة داعش، ومنظومتها الإرهابية، وتسعى إلى اتخاذ الإجراءات المعينة على درء خطرها عن المجتمع وشبابه؟ لا أظن بلادنا تختلف عن أخواتها حين النظر إليها من خلال هذه الأسئلة؛ فإخوتنا الشيعة لهم وجود في دولنا الخليجية كلها، وكلها تناهض تمدد النظام الإيراني، وترفض تدخله، وهي جميعا تُحارب داعش، وفكر داعش وثقافتها؛ فما الذي يجعل داعش تؤمّ بلادنا بالخراب، وتقصدها باغتيال المصلين، وسفك دماء المؤمنين؟ هذا السؤال يجبرني على البحث عن نقاط الاختلاف بين دولتي ودولنا الخليجية الأخرى، ويُرغمني على التحري وراء أوجه التشابه والاختلاف؛ ففي الاختلاف يكمن تفسير هذا الاستهداف، وبه أيضا يُمكن للمرء أن يُقدّم مقترحا إصلاحيا، ويضع بين أيدي أولي الشأن مشاركته في صيانة مجتمعه، وحماية منجراته الإنسانية. حين أقرأ المشهد الثقافي الخليجي أجد أنّ وجه الاختلاف بيننا وبين دولنا الخليجية الأخرى هو شدة النبرة الطائفية عندنا، وعُلوّ صوتها، ولا يغيب عن البال أنّ هذه الحالة الاجتماعية القلقة يتخذها فريقان؛ داعش وجماعتها، والمتطرفون من المكونين السني والشيعي؛ الأول يركبها لتفجير الوضع، وزرع الألغام، والثاني يتخذها في بث الفرقة، وتهيئة الأجواء لما تسعى له داعش بيننا، ومن الحزم أن نُعالج هذه العاهة عندنا، ونتعهّد مجتمعنا من ثقافة التطرف؛ خاصة تلك التي تُروّجها رموز، وتتبنى خطابها قادة لها أثر في وعي المجتمع؛ فالله تعالى لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم، ودون تحقيق هذا الشرط يصبح التغيّر حلم يقظة، لا أملا إنسانيا ممكنا. من الخير لنا في مثل هذه الحوادث المأسوية أن ينصب التفكير على صيانة المجتمع، وحفظ بيضته، ودرء المخاطر عنه، ومعالجة مداخل الشيطان (داعش) عليه، ولن يكون الحديث عن هذا الشيطان، وخطورته، وتقدّم أساليبه، وحسده لنا، وبغيه علينا، مُعينا لنا تمام الإعانة، ونافعا لنا غاية النفع؛ فها هو اليوم يجوس في أرض العراق وسورية، يقتل الناس ويُشردهم، يسبي نساءهم ويُيتم أطفالهم، ولم تستطع دول التحالف أن تُوقف زحفه، وتصرم حبل قوته!، مع أن قوته، إذا قورنت بقوتهم، ضعيفة هزيلة، وموارده، إذا عُدّت إلى مواردهم، نزرة ويسيرة، أفلا نعجب من هذا الأخطبوط الذي تُحاربه الدول، وتقصفه طائراتها، ثم تمتدّ يده بالغدر، واغتيال المصلين؛ كأنْ لم يكن لحزبه شيء، ولم يجر له على أيديها نوائب وأكوان. داعش سرطان سارٍ، وأخطبوط يتمدد، كشفت مواجهة الجيش العراقي له أخيرا؛ أنّه ذو خطر عظيم، وقوة لا يستهان بها؛ فكلنا سمع هرب قادة الكتيبة الذهبية التي سهرت أمريكا على تدريبها، وأبلت بلاء حسنا في تنظيمها؛ لكنها للأسف لم تستطع الصمود أمام ميليشيا داعش، وأسلمت في أيديهم عتادا وسلاحا، قُدّرت قيمته بمبالغ ضخمة، وأثمان باهظة. من عجب أن يأتي هذا الانتصار بعد حملة دولية، استمرت مدة غير يسيرة، وزمنا غير قليل؛ كانت فيه طائرات التحالف الدولي تقصف هذه الميليشيا، وتستهدف قادتها وأفرادها، وتُدمر عُدتها وذخيرتها، كل هذا وذاك يُرينا مبلغ قدرة داعش العجيبة، وصلابتها الفريدة في المقاومة والبقاء على قيد الحياة، ويدفع بنا هذا الواقع إلى طرح الأسئلة التالية:  لِمَ لا تتأثر داعش بهذه الحملة الدولية؟ ولمَ لا يكسر شوكتها هذا الاتفاق الدولي على محاربتها عسكريا؟ ولِمَ لا يُضعفها الإجماع الدولي على منابذتها ثقافيا؟ يبدو أن داعش نموذج تأريخي فريد، وهذه الفرادة تُوجب علينا دراستها، والعناية بها؛ لأنّ المتوقع لها، والمنتظر ممن يُماثلها في النشاز؛ أن ينتهي سريعا، وينقرض باكرا؛ فكيف طالت حياة من يُتوقع نفوقُه، ويترقب الناس شولان نعامته؟ وبعيدا عن هذا الواقع المملوء بالأسئلة المحيرة، والاستفهامات العصيّة؛ يجدر بنا أن نطرح الخيار الذي يخدمنا أكثر من غيره، ويحفظ بلادنا، ويصون وحدتنا، ويجعلنا صفا صلدا في وجه كل حسود حقود متربص، وثمّ خياران في هذه الأزمة؛ الأول يتعلق بالتنديد بداعش، وعدواتها لنا، وتربصها بنا، والثاني يذر هذا الخيار وخطابه بعيدا، وينشغل بمعالجة كل ما يجعل داعش تُفكّر باستهدافنا، وتستغله للتفريق بيننا، وإيقاع الفتنة في ديارنا. أميل للخيار الثاني، وأراه سبيل نجاتنا بعد الله، فنحن قد بذلنا جهدنا في حربها عسكريا مع التحالف الدولي، وقدمنا الكثير في ذلك، وليس في أيدينا أكثر من هذا في عالم غريب الأطوار، عازب عن الفهم؛ لكننا نملك الكثير الكثير في صيانة جبهتنا الداخلية، ونزع الفتيل الذي تريد داعش، ومَن وراءها من أعدائنا، إشعاله بيننا، وإيقاده في ربوع بلادنا. داعش تقصد غاية، وتتغيا هدفا، وما قامت به من تفجيرات آثمة، ونوازل عظيمة، إن هو إلا وسيلة إلى تلكم الغاية، والخطوة الأولى إلى نيلها، وهي غاية عرفها الجميع، وأطبق على القول بها القريب والبعيد، فدورنا الأعظم سيكون في إبطال هدفها هذا، ودحر جحافلها عن تحقيقه، وأعظم ضربة لهذا المشروع الداعشي هو أن نكون يدا واحدة، ونرضى لكل طائفة ما رضيت لنفسها، ونأخذ في دعوتنا للناس بالدستور الإلهي (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، ونذر التشاتم، ونبتعد عن التكفير، والتخوين، ونزرع في أجيالنا أن البشر تأسرهم الكلمة الطيبة، وتستميلهم اللهجة الودودة، وينفرون من الغلظة، ويبتعدون عن أصحابها (ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، وليعلم كل مواطن أنه سيحاسب وحده، ولن يُسأل عن غير عمله (إنها لإحدى الكبر. نذيراً للبشر. لمن شاء منكم أن يتقدّم أو يتأخر. كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر. وبصورة أخرى فالهدف من التفجيرات، واغتيال المصلين، هو تحويل الصراع الطائفي من موجود بالقوة إلى موجود بالفعل، وداعش تستغل الخطاب التكفيري، وتستفيد من خطاب التخوين بين السنة والشيعة، والمواجهة لها ينبغي أن تكون حسب السلاح الذي تستخدمه، والطريق الذي تسلكه، وتتخذه في الوصول إلى أهدافها؛ فعلاج كل شيء من جنسه، ومن يحاول أن يذر البلاء الطائفي، ويتذرع بأنه لم يقد في الماضي إلى التفجير؛ فهو كمن يذر قتل الأفعى؛ لأنها لم تلدغه في ماضيه، ولم تسئْ إليه فيه. وليس بخافٍ، أيها السادة والسيدات، أن دولتنا تُمثّل ثقلا دينيا في عالم المسلمين، فهي - مع احترام دولنا المسلمة كلها - تمثل رُبّان السفينة الدينية، ولها دور رئيس في إبطال مرض الطائفية في هذا العالم كله؛ فما تقوم به من إصلاح ديني، وتجديد في خطابه، لا يعود عليها، وعلى التنوع المذهبي والثقافي فيها، بل يعود بالخير على هذا العالم كله، ولعلّ من مبشرات الخير ما ذكره وزير الشؤون الإسلامية في جريدة الرياض، يوم السبت الثاني عشر من شهر شعبان، من عزم على تطوير الخطاب الديني وتجديده، فبمثل هذه الروح الإصلاحية، والهمم العالية، والمضي قدما فيهما؛ نسدّ الباب الذي تريد داعش أن تلج إلينا منه، وتبذر بذور الفرقة بيننا باستغلاله، وقد قيل وصدق القائل: درهم وقاية خير من قنطار علاج، والتجديد خطاب تتلهّف الجماهير له، وتنتظر تدشينه، وأحسب المجتمع في معظم طبقاته أضحى مستعدا تمام الاستعداد لاستقباله، والمعاونة في إتمامه، وإنضاج أطروحاته؛ فنحن في عصر انفتح فيه مجتمعنا على الأمم جمعاء، غربيّها وشرقيها، وأضحى الفرد يجوب آفاق هذا العالم برِجْله، وعبر جهازه، ولم يجد ما كان يُحذّر منه، ويُخاف عليه بسببه، وأحسب ركيزة هذا التجديد كله قد قدّمها ابن حزم حين قال: "واعلموا رحمكم الله أني أقول إعلانا لا أسرّه:" إن تقليد الآراء لم يكن قط في قرن الصحابة، رضي الله عنهم، ولا في قرن التابعين، ولا في قرن تابع التابعين، وهذه هي القرون التي أثنى النبي عليها، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا سبيل إلى وجود رجل في القرون الثلاثة المتقدمة قلّد صاحبا أو تابعا أو إماما أخذ عنه في جميع قوله فأخذه كما هو، وتديّن به، وأفتى به الناس، فالله الله في أنفسكم، لا تفارقوا ما مضى عليه جميع الصحابة أولهم عن آخرهم، وتابعهم عن متبوعهم". وإذا كانت أجيال القدوة هكذا فأحسن وجوه الاقتداء بهم أن نُجدد الخطاب الديني، ونرجع للأصل فيه، وإذا عيب على الأفراد التقليد؛ فالأمة والمجتمع والشعب يُلامون عليه أشد، ويستغرب حصوله منهم أكثر.

مشاركة :