الانتماء الوطني والتراث المذهبي - د. إبراهيم المطرودي

  • 7/16/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يُشكّل التراث المذهبي، وأقصد هنا العقدي، أحد مقلقات الانتماء للأوطان، وأبرز عائق من عوائق توحيد النظرة إلى المواطن في الداخل والخارج، وتغليب التراث العقدي على المواطنة والمساكنة داء قديم في عالمنا الإسلامي، وإليه ترجع كثير من التحديات التي مرّت به، وبأهله يخضع الناس اليوم للانتماء الوطني، ويُسلّمون به، ويرونه حقيقة، لا تقبل الجدل ولا النقاش، فتراهم حين يسألون الأغراب والأجانب يقولون لهم: من أين أنتم، وإلى أي بلد تنتمون؟ فيقولون: من السعودية، أو الكويت، أو العراق، أو البحرين، أو ماليزيا، أو تركيا، السائل والمسؤول كلاهما يؤمن بالوطن، ويبني خطابه مع الآخرين عليه؛ فالسائل يطرح استفهاماً يدور حول الانتماء الوطني، والمسؤول يُجيبه بذلكم الانتماء، ويكتفي به، ويكون هذا السؤال بداية حوار يطول أو يقصر بينهما، يتجنّب فيه الزائر والمزور السؤال عن المذهب والنحلة الدينية التي ينتمي إليها كل واحد منهما؛ فهذه أشبه بالأسرار التي لا يُفضّل أحد معرفتها، ولا السؤال عنها، ويرى الجميع، بل يجتمعون على هذا، أنها لا حاجة إليها، ولا مسوّغ للتخابر بها والاستخبار عنها. حين نذهب إلى شرقي البلاد الإسلامية أوغربيها؛ نكون مؤمنين بالوطنية، والانتماء الوطني، ونراهما خير تعريف لنا، ونكتفي بهما في تعارفنا مع الآخرين، ولا نرى حينذاك أي خلل في هذا العمل الذي نقوم به، ونسير عليه، يُعرف الإنسان الخليجي مثلا في دول العالم باسم دولته، وانتمائه الوطني، ولا يتطرّق الحديث معه حول مذهبه واختياره الديني، فتلك من القضايا المتروكة التي اتفق الناس على طيّها، ونسيان أمرها، وهوانها بينهم. وحين يقدم إلى بلادنا الحجاج والعمّار من أقاصي الأرض، يزورون بيت الله، ويقضون ما عليهم من حقوقه، لا نعرفهم إلا بانتماءاتهم الوطنية، ولا نزيد على ذلك؛ فهذا تركي، وذاك لبناني، وهؤلاء ماليزيون، وأولئك عراقيون، يعيشون بيننا، ويصلون في مكة والمدينة معنا، ويذهبون إلى بلدانهم، ولم يدر بأخلادنا أن نعرف مذاهبهم، وما هم عليه من آراء في العقيدة والفقه. هذه هي الثقافة الشعبية، والرؤية العامة، وهي حقيقة من الحقائق الواقعية لا يُمكن تجاهلها، ولا غض الطرف عنها، وهي صورة ناطقة لغلبة الانتماء الوطني على الانتماء المذهبي بين المسلمين، وبها يشعر المسلم أن بطاقة هويته التي يُعرف بها، ويمتاز بها عن غيره، هي انتماؤه للوطن وأهله؛ فهو من المجتمع الفلاني، ينتمي إليه حين التعريف، ويُعرف به، هو واحد منهم، وراجع إليهم بانتسابه، يهمه ما يهمهم، ويُعنى بما يُعنون به، وليس له بعد ذلك انتماء أهم منه، وآثر عنده، هكذا نحن أمام الآخرين، وهكذا هم الآخرون بحضرتنا، نعتز بأوطاننا، ونُمثّل شركاءنا في الوطن، ولا نرى في ذلك أمراً عجباً، ولا شيئاً إدّا؛ إذًا ما الذي يُحيي الانتماءات المذهبية، ويُوقظها في النفوس من جديد حين أسكن إلى جوارك، وتسكن إلى جواري؟. حتى المذهبيين الذين يحترقون لنشر المذهبيات، ومعايرة البشر بها، والاحتماء في كل شاردة وواردة خلفها، وتجدهم يتهامسون بها بُغية يقظتها في ضميرك، ونهوضها في نظرتك؛ لم يملكوا إلا أن يُسايروا هذه الموجة، ويَقبلوا بها، ويُقبلوا عليها؛ حقًا لقد غلبت الانتماءات الوطنية أشد أعدائها، وألدّ خصومها، فهم في رأيي يرونها إحدى مظاهر العلمانية، وأحد وجوهها، وأعظم مصائبها؛ لأن الناس يغفلون عنها، وينساقون وراءها تلقائياً؛ مما يجعل نزعها من نفوسهم عسيراً، واستئصالها منها صعباً، وهنا مكمن الخطر الأكبر في نظرهم، والمصيبة العظمى عندهم؛ لأن أطرهم، وآفاق أذهانهم، مبنية على الانتماء للمذهبيات لا الأوطان وأهلها. ويعود السؤال من جديد: لماذا تنهض في الداخل الانتماءات المذهبية، وتتعالى أصواتها بيننا، وحين نلتقي بمسلمي العالم ينأى هذا السؤال، ويختفي من على ألسنتنا؟ لماذا تكون المذهبيات الدينية سبباً لفرقتنا، وتباعد ما بيننا، وتكون الانتماءات الوطنية موحدة لنا، وجامعة لشتاتنا؟ أليس من المؤسف لكل مسلم أن يرى صورة الدين في مذهبه تدعوه للفرقة، وتجرّه إليها، ويُبصر على الضفة الأخرى الانتماء للأوطان والمجتمعات يدعوانه إلى الوحدة، ويستحثانه عليها؟ يُشكّل التراث المذهبي، وأقصد هنا العقدي، أحد مقلقات الانتماء للأوطان، وأبرز عائق من عوائق توحيد النظرة إلى المواطن في الداخل والخارج، وتغليب التراث العقدي على المواطنة والمساكنة داء قديم في عالمنا الإسلامي، وإليه ترجع كثير من التحديات التي مرّت به، وبأهله، ولعل القارئ يعجب حين يعلم أن أرسطو اليوناني تعرّض لمفهوم المواطنة في كتابه "في السياسة"، وكان مما قاله فيه: "ينبغي قبل كل شيء أن نبحث عن المواطن؛ إذ الدولة جماعة مواطنين، ومن ثمّ علينا أن نستقصي مَنْ يجب أن ندعوه مواطناً، ومن هو المواطن"، لستُ أدري لماذا لم تبرز هذه القضية عندنا في القديم مع أن فلسفة أرسطو نُقلت في وقت مبكر؟. التراث المذهبي، ومرة أخرى أقصد العقدي خاصة، شكّل سبباً من أسباب القطيعة الاجتماعية، ورفع التوتر بين الناس، وجعلهم يرون أن الدين يدعوهم إلى الشتات، ويُحرّضهم على الانعزال، وحسبنا أن نقرأ في كتاب "الفَرق بين الفِرق" لعبد القاهر البغدادي، المتوفى أوائل القرن الخامس، قوله: "وإن كانت بدعته من جنس بدع المعتزلة، أو الخوارج، أو الرافضة الإمامية، أو الزيدية، أو من بدع النجارية، أو الجهمية، أو الضرارية، أو المجسمة؛ فهو من الأمة في بعض الأحكام، وهو جواز دفنه في مقابر المسلمين، وفي أن لا يُمنع حظه من الفيء والغنيمة إن غزا مع المسلمين، وفي أن لا يُمنع من الصلاة في المساجد، وليس من الأمة في أحكام سواها، وذلك أنه لا تجوز الصلاة عليه، ولا خلفه، ولا تحل ذبيحته، ولا نكاحه لامرأة سنية، ولا يحل للسني أن يتزوج المرأة منهم؛ إذا كانت على اعتقادهم" (14 وأعاده مرة أخرى في 232). البغدادي فقيه شافعي، ومتكلم على مذهب الأشعري، وربما يتراءى لنا حسنات في قوله هذا؛ لكنّ المقام مقام تبيان لوجوه النقص، وإبراز لمظاهر القصور، وتظهر العيوب حقاً حين يصبح لهذه المذاهب كلها منظرون في الدولة الإسلامية، ويُوجد لكل مذهب عالم كالبغدادي يضع هذه الوصايا، ويحض الناس عليها، وإذا استثنينا الخوارج؛ لأنهم مخالفون للجماعة، خارجون عنها أصالة، فإن المجتمع المسلم ستحدث فيه حرب اجتماعية باسم فهم الدين، يكون ضحيته الوطن وأهله، ولعل من المثير في هذا النص أن يجوز زواج المسلم من الكتابية، ولا يجوز له أن يتزوج المسلمة، المخالفة له في المذهب، وأن يأكل ذبيحة الكتابي، ولا يجوز له أن يأكل ذبيحة أخيه المسلم. ومن المفارقات العجيبة أن يعدّ أبو منصور البغدادي تلامذة الأشعري النّجباء، ويُثني عليهم، ويذكر منهم في كتابه الآنف الذكر ابن فورك ( 364) ثم يجد القارئ ابن حزم يذكر هذا الرجل، والطريقة التي قُتل بها، فيفرح، ومن فرحه أن يترحم على قاتله، ويشكره بهذا الترحم على ما قدّمه للإسلام من قتل هذا المفسد للدين برأيه، يقول ابن حزم في "الفصل في الملل والنحل" : "وأخبرني سليمان بن خلف الباجي، وهو من مقدميهم اليوم أن محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني على هذه المسألة، قتله بالسم محمود بن سبكتكين، صاحب ما دون النهر من خراسان، رحمه الله!". يُنتظر من رجال الدين في كل مذهب أن يكون مثله، رحمة للعالمين، وأُسوة لهم بعد سيد الخلق أجمعين؛ فالرحمة تجمع، والفظاظة تُفرّق، ويتوقع منهم أن يخلو كلامهم من مواقف شبيهة بهذا الذي قرأناه عند البغدادي وابن حزم، رحمهما الله، فهم الخائفون على سفينة المجتمع أن تخرق، والمحذرون من قربانها، فكيف بهم إذا وجدهم الناس أحد أسباب غرقها، وعثروا عليهم بين المشاركين في نزع ألواحها؟.

مشاركة :