ماذا وراء التعنت الإثيوبي في قضية سدّ النهضة | محمد أبوالفضل | صحيفة العرب

  • 6/30/2020
  • 00:00
  • 17
  • 0
  • 0
news-picture

يحيل التعنت الإثيوبي والإصرار على البدء في ملء الخزان في قضية سد النهضة إلى أن أهمية الملف بالنسبة لأديس أبابا تتجاوز رواية أن المشروع قومي بل يدخل في خطة تريد تغيير محددات المنظمة الإقليمية. ورغم انطلاق مجلس الأمن في مناقشة الملف بطلب من القاهرة، فإن المسألة تعقّدت أكثر إلى درجة أنه بات من الصعب التكهن بالخيارات والسيناريوهات المنتظرة مستقبلا. القاهرة – بدأ مجلس الأمن الدولي مناقشة ملف سد النهضة الإثيوبي، الاثنين، بناء على طلب مصري، في وقت أصبح فيه الاتحاد الأفريقي أكثر اهتماما عقب عقد قمة مصغرة الجمعة، بقيادة دولة جنوب أفريقيا، رئيسة الدورة الحالية للاتحاد الأفريقي، حضرها قيادات مصر والسودان وإثيوبيا. وأكدت بيانات رسمية صدرت في كل من القاهرة والخرطوم أن القمة نجحت في حث أديس أبابا على وقف ملء خزان حتى التوصل إلى اتفاق ملزم. إصرار على الملء جاءت المعلومات التالية من إثيوبيا لتشير إلى عزمها الملء أوائل يوليو المقبل، وحوى بيان الاتحاد الأفريقي عن القمة مفردات غير متطابقة تماما مع البيانات التي صدرت عن الدول الثلاث، لم تقطع بالربط بين الملء والاتفاق، ولم تنف نية أديس أبابا الالتزام بتوقيع اتفاق أولا، وتركت الألفاظ المطاطة التفسير لكل دولة، حيث يمكنها أن تجد ما يريحها مؤقتا. تؤكد هذه المعطيات أن أزمة سد النهضة ممتدة، على مستويات مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي والدول الثلاث لفترة من الوقت، ويصعب معها تحديد الخيارات المنتظرة، فلا تزال المسافة بعيدة بين الدول الثلاث، ويحتاج تذويبها إلى خطوات وتنازلات من كل طرف، ولم تظهر معالم واضحة تشي بأن هناك فرصة لذلك في الأفق، فموقف إثيوبيا ثابت في جوهره مع كل الجهود التي بذلت للتفاهم والتقارب وتوقيع اتفاق يحظى برضاء الجميع، ومصممة على نهجها في عدم التخلي عن المشروع بالطريقة التي جرى بها هندسته استراتيجيا. تتجاوز أهمية سد النهضة حكاية أنه مشروع قومي وتنموي تلتف حوله الشعوب الإثيوبية، لمنع التفكك والتشرذم والحدّ من تضخم المشكلات الداخلية، إلى كونه خطة متكاملة تريد تغيير الكثير من محددات المنظومة الإقليمية في قضايا تصدير الكهرباء، وتسليع المياه، وتشييد سدود أخرى، وتدشين إثيوبيا كرقم رئيسي في معادلة التزاحم على الهيمنة في منطقة شرق أفريقيا. أهمية سدّ النهضة تتجاوز حكاية المشروع القومي ليتضح أنها خطة متكاملة تدفع إلى تغيير محددات المنظومة الإقليمية يجد الراصد للخطاب السياسي والإعلامي استنتاجات متفرقة من هذا النوع، تستخدم عبارات غير مباشرة، يبدو العنصر المشترك بينها حق إثيوبيا التصرف في المياه بالطريقة التي تريدها، إلى درجة أن هذا المحدد أصبح خطابا شعبويا تتداوله القيادات والنخب والمواطنون بإسراف، ودون التدقيق في مكوناته الرئيسية، وأهمها أن النيل الأزرق نهر دولي، وهناك قوانين تحكم عملية استخدام الأنهار، والتعدي عليها قد يهدد الأمن والسلم الإقليمي. يصر هؤلاء على تجاهل الضوابط أو غض الطرف عنها عمدا، لأن المقصود تحقيق جملة من الأهداف كي تحدث هزة قوية في بعض المسلمات التي اعتادت الدول على التعامل بها، وأبرزها وضع قيود على حق كل دولة في إقامة السدود لتوليد الكهرباء من مياه النيل، في حين ترى إثيوبيا أن تصدير الكهرباء مشروع واعد في بيئة داخلية وإقليمية تفتقر لذلك، وبالتالي الكميات الكبيرة التي سيوفرها سد النهضة كافية لتكون أحد المصادر المهمة للدخل القومي. يمثل تصدير الكهرباء من إثيوبيا ورقة ضغط على الدول المحيطة بها، ومعظمها يفتقر لهذه السلعة الحيوية، ولجأ خطابها دوما إلى التركيز على زاوية فقر هذه السلعة في الإقليم عموما، وتصبح إثيوبيا المنقذ له من الظلام، وبأسعار في متناول الدول الصديقة والقريبة التي تعاني من شح كبير في الكهرباء، ومن الضروري أن تجد أديس أبابا مساندة أفريقية، وقد فعلت ذلك لوقت طويل مع السودان، واستفاق ووجد أن خسائره من السدّ تفوق مكاسبه في الكهرباء. اصطحب تغير موقف الخرطوم معه تداعيات على صعيد تقوية الموقف المصري، لكنه لم يغير قناعات إثيوبيا، لأن حساباتها تتجاوز حدود السودان في تصدير الكهرباء كدلالة على النور والخروج من التبعية، والتي تجد رواجا لدى الكثير من شعوب أفريقيا، ومن هنا تسعى أديس أبابا للإيحاء بأنها الرمز والمنقذ لدول شرق أفريقيا في هذه القضية. أغرى فائض المياه الكبير قيادات إثيوبيا على السعي حثيثا لتسليعها، وهو حديث قديم لم يجد العوامل المساندة له في حقب سابقة، ومع تدشين سد النهضة يمكن منحه دفقة مادية ومعنوية كبيرة، فعندما تتراجع معدلات المياه في كل من مصر والسودان يتسنى طرح فكرة البيع، ومع أن القضية بعيدة بحكم قوانين الأنهار التي تحدد أطر العلاقات بين الدول المتشاطئة، غير أن الحاجة أم الاختراع، ويمكن أن تتبدل بعض التقديرات وتدخل عصرا جديدا من المساومات. خطوة تتبعها خطوات جعلت هذه المسألة إثيوبيا، وغيرها، تتبنى مبكرا عملية إعادة النظر في الحصص التاريخية التي تتحصل عليها كل دولة وفي مقدمتها مصر، دون النظر إلى الاحتياجات المتزايدة، ومعاناة السكان المستمرة من شح حقيقي في المياه حاليا، وبمزيد من الضغط وإقرار سياسة الأمر الواقع تعتقد أديس أبابا أن القاهرة سوف تقبل في النهاية بالصيغة التي تحددها. وبناء على ذلك تلجأ أديس أبابا للمرونة تارة والتشدد تارة أخرى، لكنها لم تتزحزح في أي من مراحل التفاوض عن موقفها، وفي أوج ما تردد حول التفاهمات الكبيرة التي جرت في أيّ من المحطات السابقة تلوح إثيوبيا برغبتها في تطبيق فكرتها صراحة أو ضمنا، حتى تشبّع الإثيوبيون بفكرة أن النهر نهرهم وهم أولى برسم الطريق لاستثماره ولا أحد يجب أن يشاركهم فيه، الأمر الذي يضرب عرض الحائط بالكثير من القوانين التي تنظم عملية استغلال الأنهار الدولية. ينطوي تمرير سدّ النهضة بالصيغة التي تريدها إثيوبيا على رغبة لفتح المجال أمام تشييد المزيد من السدود، فأديس أبابا لديها خطة محكمة في هذا الفضاء، تساعد على زيادة وتيرة التوظيف الاقتصادي للمياه بما يتخطى البعد المحلي، وكلما تضاعفت تمكنت من تكريس تسليع المياه للدول التي تحتاجها، تمهيدا لخروج مجرى النهر عن سياقه الطبيعي، بمعنى عدم استبعاد مدّ المياه لأماكن لم يصلها النهر على مدار التاريخ، بحجة أن هناك فائضا يمكن تصديره. جرى تداول هذه القضية في أوقات كثيرة عندما أشارت الأصابع إلى حاجة إسرائيل للاستفادة من مياه نهر النيل بالتعاون مع إثيوبيا، لكن ذلك أمر ترفضه مصر لأنه يغير جغرافيا النهر ويقود إلى تغيرات في الجغرافيا السياسية للدول، ولذلك يحمل التشدد مع الخطط الإثيوبية لسد النهضة مكونات استراتيجية لم تعد خافية، يقود التنازل فيها إلى نتائج وخيمة، وتلقي بظلالها على الكثير من الثوابت المصرية، وفي مقدمتها التعاطي مع ما يجري الآن على أنه معركة وجود تتطلب يقظة قبل أن تفاجأ الدولة بتحولات تؤثر على بيئتها الإقليمية. تسعى إثيوبيا إلى وضع خطوط فاصلة للإقليم الذي تعيش فيه، وهي تدرك أن التحركات الراهنة في شرق أفريقيا يمكن أن تؤدي إلى تغيرات قد يصعب عليها ملاحقتها، إذا لم تسبق وترسم بنفسها معالم الخارطة التي تريدها، ففي ظل سباق بعض القوى الإقليمية لوضع أقدامها في المنطقة سوف تتوارى إثيوبيا التي تتغذى على قدرتها في الاستحواذ على بعض أوراقها، والقبض عليها لتكريس نفوذها وزيادته، ومنع الآخرين من استغلال مساحة الفراغ الشاسعة في الإقليم. ترى إثيوبيا أن أمامها فرصة جيدة للسيطرة والهيمنة على منطقة شرق أفريقيا، بما يمكنها من إعادة ترتيب أمورها الداخلية على أساس فائض القوة الممتدة التي توفرها لها هذه التوجهات، وبالتالي سد المنافذ على أي من التصورات التي تتبناها جهات محلية نحو الاستقلال وتقرير المصير، اعتمادا على حالة التلاحم الجغرافي والقبلي عند بعض الجماعات الجهوية. وهو ما يجعل سدّ النهضة أكبر من ورقة تنموية. ترى مصر أن فوزها في هذه المعركة بالأدوات الدبلوماسية يعزز نهجها السلمي، ويؤكد أنها قادرة على حسم أزماتها الإقليمية دون حاجة إلى استخدام خشونة تملك منها فائضا كبيرا، ويعزز نفوذها في الفضاء الأفريقي الذي غابت عنه لفترة، لأن مشروع سد النهضة دخل طورا جعله أزمة مصيرية تتعلق بهيبة وحضور الدولة المصرية.

مشاركة :