تعكس زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى السودان رغبة أديس أبابا في استمالة الخرطوم في مواجهة التحركات المصرية في ملف سد النهضة والتي تحظى بتأييد سوداني بعد أن أبدت الخرطوم تقاربا وتفهما لموقف القاهرة الرافض للمماطلات الإثيوبية والقرارات أحادية الجانب في معركة المياه. ويستبعد متابعون تحقيق اختراق في الموقف السوداني خاصة وأن القاهرة حققت هدفين حاسمين في مرمى إثيوبيا مؤخرا من خلال القنوات المفتوحة مع السودان، أحدهما بتقارب الرؤيتين فنيا وقانونيا في ملف السد، والآخر بتطوير التعاون المشترك. حملت زيارة رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد إلى الخرطوم، الثلاثاء، مجموعة من المعاني السياسية بشأن أهمية السودان بالنسبة إلى أديس أبابا في ملف سد النهضة، والذي دخلت مفاوضاته منعطفا خطيرا، في ظل التباعد الحاصل في المسافات بين الدول الثلاث، مصر وإثيوبيا والسودان، والصراع الخفي الجاري بين الدولتين على استقطاب السودان، الذي نجح في تبني رؤية مستقلة، بصرف النظر عن الجهة التي تصب هذه الرؤية في صالحها. يتخطى الصراع على السودان حدود هاتين الدولتين، فهناك قوى إقليمية ودولية عدة تحاول جذبه إلى صفها، لأن انحيازاته تحمل مكونات سياسية بعيدة، ناحية محاور متداولة، مثل: العروبة والأفرقة، والسلام والمقاومة، والتطرف والاعتدال، والحكم العسكري والمدني، وكلها تقاطعات تدور حولها نقاشات. وعندما يحدد السودان بوصلته نحوها يمكن أن تتكشف معالم كثيرة في الطريق الذي يريد السير فيه. جاءت زيارة آبي أحمد بعد زيارة قام بها رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي للخرطوم، في 15 أغسطس الجاري، فتحت نوافذ واعدة للتنسيق والتعاون بين مصر والسودان، خاصة في ملف سد النهضة، والذي تصاعدت وتيرة التقارب حوله مؤخرا، وبدت مواقف البلدين منسجمة، وربما متحدة ضمنيا ضد التعنت الإثيوبي، بشأن الشروط الواجب توافرها لتوقيع اتفاق ينهي التأزم الراهن. على خط الوساطة مصر دولة وازنة في المنطقة مصر دولة وازنة في المنطقة استأنفت، الاثنين، اللجان الفنية والقانونية من الدول الثلاث أعمالها في التفاوض حول النسخة الأولية المجمعة المعدة من مقترحات الدول الثلاث، في محاولة لحل عقدة النقاط الخلافية، وتقريب وجهات النظر سعيا للتوصل إلى اتفاق متكامل لملء وتشغيل السد، وإعداد تقرير لعرضه على رئيس جنوب أفريقيا، بوصفه الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، الجمعة، 28 أغسطس الحالي. ويريد آبي أحمد من زيارته للخرطوم هذه المرة، أن يستعيد السودان إلى جواره، أو على الأقل يرجع إلى دور الوسيط الذي لعبه لفترة من الوقت، وانقطع عنه عقب دخول جنوب أفريقيا على خط الوساطة، فاستمرار وقوفه بجانب مصر يؤثر حتما على التوازنات التي أقامت عليها بلاده الكثير من حساباتها الفنية والسياسية، وقد يجبرها على تغيير خططها، وهي على بعد خطوات من صدور تقرير الاتحاد الأفريقي، الذي تلقى رؤى متقاربة بين القاهرة والخرطوم. وصل رئيس الوزراء الإثيوبي إلى السودان في توقيت سياسي مزدحم، حيث الأضواء مسلطة على الأهمية النوعية التي تنطوي عليها زيارة مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي، كما أن القوى السياسية منقسمة حول ملف التطبيع مع إسرائيل، والخلافات احتدمت بين المكونين العسكري والسياسي في السلطة الانتقالية، ما يجعل ملف المياه لا يحتل أولوية كبيرة في الخرطوم، ويضع علامات استفهام على زيارة آبي أحمد. اكتسبت العلاقات بين إثيوبيا والسودان زخما في بداية الثورة، ومنح الدور الحيوي الذي لعبته الأولى في ترتيب الأوضاع السياسية بالثانية أهمية كبيرة، وترتبت عليه ميول نحو تطوير العلاقات مع الدائرة الأفريقية، وجزء من الانحياز تجاه إثيوبيا خرج من رحم عدم الثقة في نوايا القاهرة، والجزء الآخر يتعلق بارتدادات العلاقة السلبية معها خلال عهد الرئيس المعزول عمر البشير، حيث تغلبت مواقفه العقائدية على مصالح بلاده الوطنية، وقدم موقفا منحازا إلى إثيوبيا. جرى تعديل الدفة عندما كونت الحكومة السودانية لجنة علمية خاصة بمياه النيل، أبعدت عنها أصحاب المواقف الأيديولوجية، وبدأت تقديراتها تتوالى حول المكاسب والأضرار الناجمة عن سد النهضة، والتخلي عن سياسية تقديم المحاسن على الخسائر، وتصوير الأمر على أنه بقرة حلوب للسودان وإثيوبيا، الأمر الذي تعاملت معه أديس أبابا بعدم ارتياح كبير، وتجنبت توجيه انتقادات مباشرة للخرطوم، وحصر المسؤولون تصريحاتهم الحادة نحو القاهرة، على أمل حشرها في زاوية ضيقة، عندما ينجحون في استرداد الخرطوم للوقوف في صفهم. أظهرت التطورات الأخيرة أن إثيوبيا مصممة على تنفيذ رؤيتها الخاصة بالتعامل مع النيل الأزرق بالطريقة التي تراها مناسبة، ودون اعتبار لحجم الأضرار التي يسببها السد لكل من مصر والسودان، ما أدى إلى زيادة التفاهم بينهما. كما تعززت فرص التعاون للضغط على المفاوض الإثيوبي، وقطع الطريق على إمكانية مواصلته الاستفادة من الفجوة السابقة بينهما، والتي مكنته من تسريع خطوات البناء، ومنحت أديس أبابا جرأة في تنفيذ الملء الأول للسد بصورة منفردة، وهو ما أدى إلى زيادة الانعطافة في موقف السودان، وبدأت تظهر تصريحات ناقمة. يرجع التغير اللافت في الموقف إلى أسباب فنية ومصلحية وليست سياسية، حيث تأكد المسؤولون من أن السد يحمل مخاطر عدة، وسوف يكبد الخرطوم خسائر فادحة، في وقت لا تريد فيه أن تتبنى السلطة الانتقالية الحالية تصورات يمكن أن تنعكس سلبا على الأجيال القادمة، وعندما اقتنعت بأن هناك أضرارا واقعة عليها لم تتردد في القيام باستدارة فنية جعلتها بعيدة عن المربع الإثيوبي، وأقرب إلى المربع المصري. قواسم مشتركة سد النهضة.. أزمة تراوح مكانها سد النهضة.. أزمة تراوح مكانها تتبنى كل من القاهرة وأديس أبابا توجهات مختلفة لجذب الخرطوم، فالأولى لم تمارس ضغطا من أي نوع، وتعلم أن ذلك خط أحمر يضر بمصالحها ويؤدي إلى نتائج عكسية، ولم تتخذ خطوات توحي بالعصا في أي وقت، وتركت الأمر لتقديرات الخرطوم الفنية، والتي جاءت محصلتها إيجابية، بما فتح الطريق أمام استعادة الدفء في مجالات مشتركة عديدة، بينها سد النهضة. تخلت مصر عن حصر علاقاتها مع السودان في مجال معين، وحرصت على تجاوز الحوار بين الجانبين مناطق كانت تمثل حساسية في أوقات سابقة، وأبدت استعدادا لمد الخرطوم بما يلزمها من مساعدات، في ملف الكهرباء والنقل والمواصلات والخدمات عموما، ونزع ورقة مهمة من يد إثيوبيا تستثمرها في تبرير بناء السد، والترويج لمزايا عديدة وفوائد متنوعة يحملها للسودان. أحرزت القاهرة هدفين حاسمين في مرمى إثيوبيا مؤخرا من خلال القنوات المفتوحة مع السودان، أحدهما بتقارب الرؤيتين فنيا وقانونيا في ملف السد، والآخر بتطوير التعاون المشترك، وإخراج العلاقات من حيزها الأمني والسياسي إلى فضاء اقتصادي واجتماعي واعد وأكثر رحابة، وهما يسدان ثغرة مهمة حاولت إثيوبيا توظيفها للإبقاء على الهوة بين دولتي المصب، وبنت جملة من حساباتها على استمرارها فترة طويلة. تبنت أديس أبابا مواقف ناعمة وخشنة ضد الخرطوم لإجبارها على عدم مبارحة خندقها، وكي تواصل المسيرة التي عملت بها خلال فترة حكم البشير، ولجأت إلى تقديم حزمة من الحوافز لضمان تأييد السودان لمشروعها، وقدمت مغريات تتعلق بأفق صاعد لتطوير العلاقات، ثم لوحت بالعصا عندما تمادت خروقات عصابات الشفتة الإثيوبية عند منطقة الشفقة الحدودية، والاعتداء على ضباط ومواطنين سودانيين أكثر من مرة، ولم تفلح اللقاءات المتعددة في احتواء الأزمة حتى الآن. تشير التحركات التي تقوم بها كل من مصر وإثيوبيا إلى الإيحاء بأن السودان تابع لهما، ويدور صراع بينهما حول كيفية إقناعه بالوقوف إلى جوار أحدهما، مع أنه جزء أصيل في القضية، وله مصالح مباشرة في مياه النيل لا تقل عن أي منهما، وأكثر المستفيدين أو المتضررين من السد. خرج التقدير السلبي من حالة الارتباك التي ظهر عليها السودان فترات طويلة، الناجمة عن ارتباك آخر في جسم السلطة وحداثة عهدها، وخرج للعلن مع تنامي الصراعات الداخلية، وتباين الميول والولاءات، وعندما تمكنت الحكومة من ضبط المفاتيح الرئيسية نجحت في تقديم رؤية ترفع شعار المصلحة الوطنية. إذا كانت هذه الرؤية تقترب من القاهرة، فلا يعني ذلك أنها تسير في فلكها دوما، لكن الصدفة هي التي قادت إلى ذلك، بالتالي ستواجه إثيوبيا صعوبة في تغيير قناعات لن تجدي معها نفعا المغريات المادية والمعنوية، ما يجبرها على تحول في الموقف المركزي، أي التفاهم حول الحد الأدنى لتوقيع اتفاق ملزم بين الدول الثلاث، وليس بين دولتين، لأن العناوين الأساسية تمثل جوهر التفاهم بين القاهرة والخرطوم، ويمكن أن تتجاوز ملف سد النهضة.
مشاركة :