بعض الأقليات في سوريا اصطفّ منذ بداية الأزمة إلى جانب الرئيس بشار الأسد في ظل هواجس من سيطرة الإسلاميين على مقاليد الدولة، وما قد يشكله ذلك من تهديد وجودي عليها. ولعب النظام دورا بارزا في تغذية تلك الهواجس، مستغلا الأخطاء التي وقعت بها المعارضة. اليوم، تستشعر تلك الأقليات حالة من الاستنزاف على وقع الأزمتين المالية والاقتصادية واللتين لا أفق، على ما يبدو، لانحسارهما ما لم يخطُ الأسد صوب حل سياسي جدّي. سلطت الاحتجاجات التي شهدتها محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية في الفترة الأخيرة، وتصاعد الأصوات الغاضبة والمتململة داخل البيئة العلوية، الضوء مجددا على الأقليات في سوريا، لاسيما تلك التي انحازت منذ البداية للنظام، وسط تساؤلات حول ما إذا كان ما يجري مجرد ردود فعل لحظية على وقع الأزمتين المالية والاقتصادية اللتين تعصفان بالبلاد، أم أنها نابعة من وعي يتشكل بانتهاء صلوحية النظام في ثوبه الحالي في ظل حالة يأس بدأت تتسرب من إمكانية إعادة ترميمه؟ في بداية الأزمة التي اندلعت في العام 2011، انقسمت الأقليات العرقية والطائفية في سوريا بين جزء خيّر الاصطفاف مع المنتفضين ومعظمهم من الطائفة السنية ذات الثقل الديمغرافي الأكبر في البلاد، وقسم آخر انحاز للنظام لاعتبارات ذاتية وأخرى موضوعية، دون تجاهل شق لا بأس به ارتأى البقاء على الحياد وانتظار مآلات الأمور في سوريا. يقول المعارض السوري أيمن عبدالنور إن الأقليات لم تكن كتلة صلبة متجانسة “مع أو ضد” ولكن ذلك لا يخفي واقع أنه كانت لديها هواجس من أن يحل محل النظام متطرفون إسلاميون يرون في المسلم الباكستاني أقرب إليهم من الجار المسيحي أو الدرزي. يضيف المعارض لـ“العرب” أن النظام منذ أيام الرئيس حافظ الأسد وظّف ورقة الأقليات من خلال تخويفهم من الآخرين ولاسيما من السنة، وحرص على إعطائهم بعض المزايا كممارسة الشعائر الدينية بحرية أكثر مقابل تنازلهم عن حقوقهم السياسية، هكذا كانت المعادلة التي نجح الأب في صياغتها عبر عشرات السنين وورثها للابن الذي قام بتعميقها من خلال ما أسماه بتحالف الأقليات. هاجس الإسلاميين على خلاف باقي الأطياف السورية، بدا موقف الدروز والعلويين والمسيحيين أكثر انسجاما مع نظام الرئيس بشار الأسد، رغم أن هناك البعض من أبنائهم من انجذب للمد المنتفض في البداية، قبل أن يخفت صوتهم وينحسر عددهم حيث نجح النظام في تعزيز مخاوفهم من سيطرة المعارضة السنية، وما لذلك من خطر وجودي يستهدفهم، لاسيما وأن فتاوى بعض رجال الدين السنة البارزين ما تزال ماثلة وبقوة في أذهان تلك الأقليات، ولم يستطع الزمن محوها، في ظل استثمارها من قبل تنظيمات إسلامية راديكالية صعد نجمها في العقود الأخيرة ووجدت لاحقا في سوريا أرضية “جهاد” جديدة. ولعل من الفتاوى المثيرة قول الفقيه الأصولي أحمد ابن تيمية (661 هـ – 728هـ/ 1263م – 1328م) عن الدروز “كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم. لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين، بل هم الكفرة الضالون، فلا يباح أكل طعامهم، تسبى نساؤهم، وتؤخذ أموالهم، فهم زنادقة مرتدون، لا تقبل توبتهم بل يقتلون أينما ثقفوا ويلعنون كما وصفوا”. ويقول ابن تيمية عن العلويين الذين يطلق عليهم البعض النصيرية نسبة إلى جبل الأنصارية “هؤلاء القوم المسمّون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى؛ بل وأكفر من كثير مِن المشركين وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنجة وغيرهم.. جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب”. لم تخل فتاوى ابن تيمية الذي يلقب بـ”شيخ الإسلام” وغيره من الذين تشكل أفكارهم المثيرة للجدل الوعاء الفقهي الذي تنهل منه الجماعات المشددة، من تصويب على المسيحيين كما باقي الأقليات والدعوة لقتالهم. وعدّت تلك الفتاوى مع بروز تنظيمات مثل النصرة (الفرع القاعدي في سوريا) وتنظيم داعش، سندا وحجة قوية لنظام الرئيس بشار الأسد وآلته الدعائية في ترهيب تلك الأقليات وضمان ولائها وإن بدرجات متفاوتة، لاسيما في السنوات الأولى من الصراع، دون أن يخفى أن المعارضة السورية نفسها ساهمت في دعم حججه. مع تفجر الحراك في سوريا بدا موقف الدروز مرتبكا خصوصا مع رفع بعض المتظاهرين شعارات لم تخل من نفس طائفي، وازداد الوضع تعقيدا مع بروز المعارضة المسلحة التي نجحت منذ نهاية 2012 في التمدد جنوب سوريا. وشكل ظهور جبهة النصرة (جبهة فتح الشام حاليا) منذ ربيع 2012 والتجاوزات التي ارتكبتها كاعتقال أعيان وشباب من الدروز وشن هجمات على معاقلهم في محافظة السويداء وفي ريف دمشق على غرار ضاحية جرمانا، النقطة الفاصلة في موقف الطائفة الدرزية، التي أعلنت صراحة التخندق خلف النظام. وخاض الدروز بقيادة “الشيخ وحيد البلعوس”، الذي شكل ميليشيا قوامها نحو 1000 مقاتل درزي مواجهات قاسية مع الفصائل المعارضة والإسلامية ولاسيما النصرة التي ما انفكت تشن الهجوم تلو الآخر خصوصا على السويداء، مع الإشارة إلى أن الدروز كانوا متحفظين على تقديم الدعم للجيش السوري خارج محيطهم، وهذا القرار لا يخلو من براغماتية. في بداية العام 2015 ومع الانهيار المتسارع لمناطق السيطرة الحكومية، بدأ يبرز تغير في موقف الدروز الذين باتوا يخشون من تبعات سقوط النظام على كيانهم في سوريا، فكان أن بدأ رجال الطائفة وبينهم الشيخ البلعوس البحث عن طروحات من خارج الصندوق لعل من بينها انفصال جبل الدروز، لينتهي مثل هذا الطرح باغتيال الأخير، ودخول روسيا على خط الصراع في سوريا. اصطف العلويون منذ بداية الأزمة إلى جانب النظام، وشكلوا مع عسكرتها ميليشيات للدفاع عنه على غرار قوات الدفاع الوطني، فضلا عن تجنيد الآلاف من أبناء هذه الطائفة التي تمثل نحو 10 في المئة من مجموع السكان في سوريا للقتال في صفوف الجيش السوري. دعمُ العلويين للنظام كان بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت، فهو ولد من رحم هذه الطائفة التي نجحت عبر حزب البعث في التسلق إلى شجرة السلطة في سبعينات القرن الماضي عبر الرئيس حافظ الأسد (1930 – 2000)، الذي منحها امتيازات لا حصر لها ومكن أبناءها من تبوّؤ أعلى المناصب والرتب في الدولة. واصل الأسد الابن السير على خطى والده في تمكين أبناء طائفته على حساب باقي مكونات وأطياف الشعب السوري، الأمر الذي خلق حالة من النقمة والغبن، لاسيما لدى الطائفة السنية صاحبة الأغلبية العددية، والتي تقارب الـ90 في المئة من مجمل سكان سوريا. ورغم أن السواد الأعظم من العلويين شكل الحاضنة الرئيسية للنظام والوقود لحربه، لكن هناك بعض الأصوات من داخل الطائفة خرجت عن صف الإجماع، فيما لم تحسن المعارضة السورية استغلال الأمر، بل أوغلت من خلال خطاباتها وممارساتها في استهداف العلويين، قبل أن تظهر الجماعات الإسلامية مثل النصرة لتوغل في الجرح. ولعل الحصار الذي تعرضت له بلدتا نُبّل والزهراء في محافظة حلب والذي دام لنحو خمس سنوات (2012 – 2016) مثالا حيا عما كان يعنيه التخلي عن النظام الذي حرص على توظيف ما حصل للمزيد من شد عصب الطائفة إليه. تبنّى جزء كبير من المسيحيين موقفا مواليا للنظام السوري لعدة اعتبارات، لعل أهمها أن الأخير ومنذ نشأته حرص على كسب هذه الأقلية، ومنحها امتيازات، وكان يسوق لنفسه على أنه حامي حماهم والدرع الذي يذود عنهم في مواجهة مشاريع تهجيرهم وإفراغ الشرق الأوسط منهم، مع أن هذا التسويق لا يخلو من مغالطات إذا ما أخذنا بالاعتبار كيف عامل النظام السوري المسيحيين في لبنان حينما كانت له الوصاية على هذا البلد. وعلى غرار الدروز، تعزز موقف المسيحيين الداعم للأسد مع بروز جبهة النصرة وباقي التنظيمات المتطرفة، وكرست عملية اختطاف 13 راهبة من دير “مار تقلا” الأرثوذكسي في بلدة معلولا بالقلمون شمال دمشق في ديسمبر 2013 على يد مجموعة مسلحة موقفهم من النظام. واستمرت ممارسات الفصائل وفي مقدمتها النصرة في تغذية حالة الكره والخوف لدى المسيحيين كافتكاك تلك التنظيمات لأملاك هذه الأقلية في شمال سوريا ومصادرتها، ولا تزال مثل هذه التجاوزات مستمرة إلى اليوم في إدلب. في سبتمبر 2015 وتحديدا لحظة دخول روسيا بقوة على خط الصراع، استشعر الدروز والعلويون والمسيحيون صوابية رهانهم على النظام، لاسيما مع نجاح الأخير بفضل الدعم الروسي المباشر في قلب موازين القوى العسكرية لصالحه ابتداء من العام 2016، حيث كان قبل ذلك على شفا الانهيار، ولعل المسيرات المحتفية بـ”تحرير” مناطقهم من الفصائل المسلحة والأهازيج والشعارات التي رفعت انتشاء بالانتصارات كانت خير معبّر عن بواطن تلك الأقليات. هذه المشاعر المتخمة بنشوة الانتصارات العسكرية سرعان ما خبت لتحل محلها مع بداية العام 2019 حالة من القلق والشك مع انكشاف عمق الأزمة الاقتصادية والمالية، التي باتت تلقي بثقلها على تلك الأقليات، في ظل عجز النظام الذي نخره الفساد عن اجتراح حلول لتخفيف وطأتها، لاسيما مع العقوبات الغربية التي بلغت أوجها مع تفعيل قانون قيصر الأميركي في 17 من الشهر الجاري. يقول المعارض أيمن عبدالنور إن الأقليات المسيحية والدرزية والعلوية كانت تعمل في مهن حرة فضلا عن أنه كان لكل عائلة من تلك الأقليات عدد من الأبناء في الخارج يرسلون لها الأموال. وبالتالي كان وضعهم الاقتصادي أفضل بقليل من باقي الأطياف السورية. ولكن الآن بسبب تراجع أعمالهم وضيق التحويلات بدأوا يشعرون بوطأة الوضع الناجم عن فساد الإدارة وسوء التسيير وسرقة موارد الدولة ووضعها بجيب عائلة واحدة، ليضاف اليوم إلى كل ذلك قانون قيصر. وقانون قيصر أو سيزر والذي تمت تسميته نسبة إلى ضابط في الشرطة العسكرية كان انشق على النظام ونشر الآلاف من صور تعذيب لمدنيين ونشطاء في سجون ومعتقلات النظام، تمت المصادقة عليه من قبل الكونغرس الأميركي قبل أن يقره الرئيس دونالد ترامب في ديسمبر الماضي. يستهدف قانون قيصر تسليط أشد العقوبات على النظام السوري والحلقة الضيقة المحيطة به، فضلا عن كل من يتعامل معه اقتصاديا أو عسكريا في الداخل والخارج، في محاولة أميركية لإجبار الرئيس بشار الأسد على تعديل سياساته والقبول بحل سياسي برعاية الأمم المتحدة بناء على قرارات أممية أبرزها القرار رقم 2254. وكان لهذا القانون تأثير مدوّ حتى قبل البدء بتنفيذه لجهة الانهيار المتسارع لليرة السورية مقابل الدولار، ما انعكس بشكل كبير على المقدرة الشرائية للشعب السوري الذي يعيش اليوم أكثر من 80 في المئة منه تحت خط الفقر. هذا الوضع المتفاقم جعل الأقليات تفقد الأمل في إمكانية استعادة توازنها، وبدأت تبرز تحركات احتجاجية ساخطة لاسيما في محافظة السويداء. هذا التململ تمدد للحاضنة الرئيسية للنظام أي العلويين الذين باتوا يستشعرون فداحة استمرار هذا الحال خاصة مع فقدان الثقة في النظام في ظل الخلافات التي طفت على السطح داخل عائلة بشار الأسد (بين آل مخلوف وآل الأخرس)، وبدأت هذه الطائفة هي الأخرى تفكر بصوت عال في القفز من سفينة العائلة الحاكمة. ولعل اللقاء الذي جمع مؤخرا شخصيات علوية في الشتات مع مسؤولين من روسيا يعزز هذا التحول. يعتبر المعارض السوري أيمن عبدالنور أن “جميع الأقليات باتت تدرك أنها أمام أفق مسدود وأنه لا يمكنها الاستمرار في الرهان على النظام في ظل الانهيار المتسارع لاقتصاد البلاد الذي بات ضاغطا بشكل لم يعد من الممكن تحمل وطأته، وهناك قناعة متزايدة بضرورة وجود حل توافقي بمشاركة كتل المعارضة التي تقبل أن تكون سوريا متنوعة، وإن هناك وعيا متناميا بأن المعارضة لا تختزل في النصرة وداعش، فهناك شخصيات وطنية تستحق الثقة بها ووضع اليد معها والعمل سوية من أجل بناء مجتمع متماسك ما بعد نظام الأسد”.
مشاركة :