خاض الروائي والناشر كمال قرور منذ سنوات تجربة النشر مع كل ما تحمله من صعوبات ومشاكل جمة يعرفها قطاع الكتاب في الجزائر، وقد اعتمد في تأسيس دار “الوطن اليوم” على موارده الخاصة بعكس العديد من دور النشر العريقة في الجزائر التي لهثت وراء دعم الدولة حين كانت تدر الخزينة أموالا طائلة بمناسبات ثقافية كبرى أحيتها الجزائر طوال هذه السنوات الماضية. “العرب” كان لها هذا الحوار مع قرور حول هذه المغامرة وحول الواقع الثقافي في الجزائر. امتزج العمل الروائي “حضرة الجنرال” للروائي والناشر كمال قرور بالتاريخ وبين المجازات والأساطير، حيث يحضر الروائي الكولومبي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز أبطالها، وهي التجربة الثالثة له، والتي يقول عنها “في مساري الإبداعي هي تجربة ثرية وحافلة بالتجريب والتخريب، بعد روايتيّ ‘التراس’ و’سيد الخراب’، كتبتها بهدوء وروية، رغم القلق الذي انتابني أثناء الكتابة، بسبب الوضع السياسي المفلس الذي فاق كل التوقعات”. ويضيف قرور “استثمرت في النص التاريخي والأدب الشعبي خاصة، حيث اشتغلت على التغريبة الهلالية التي نبهتني، في حيرتي، إلى نهاية ذياب الزغبي المستبد، على يد يتامى التغريبة، الذين قتل آباءهم ويتّمهم. لقد وحّدهم حقدهم عليه بينما فرقتهم لاحقا مصالحهم، وهذا ما حدث للأسف مع الحراك الذي وحّد الجزائريين وفرقهم لاحقا في وضع تصور مشترك لمجتمع ديمقراطي يعلي من قيم المواطنة”. يقول قرور “الرواية صدرت أسبوعا قبل إقالة الفريق مدين المدعو توفيق، وهي مشحونة بالضغط والخوف، وكادت تصادر بسبب منظومة الخوف التي كرستها الشمولية في المجتمع الجزائري، ولكنها لقيت ترحيبا واستحسانا من قبل القراء. لأنها مقاربة فنية لفهم سلوك الدكتاتورية في مجتمعنا الشرقي، ولا تعني جنرالا بعينه”. يعتقد الروائي قرور أن الرجوع إلى التاريخ في الكتابة الروائية “ليس هروبا، وليس عبثا، بل حفر وانتقاء واع لمواجهة الواقع الملتبس ومحاولة فهم للحاضر المستعصي، من أجل إطلاق صرخة لاستشراف المستقبل”، فأحيانا يقول “ضغط الواقع يربك الكاتب. التاريخ يلهمه بأساطيره وأحداثه وشخصياته، ويمنح الاستعارات الفنية القادرة على تمثل الحاضر الغامض المربك. ومراوغة الرقيب المترصد والذي قد يفاجئك أنه ليس الرقيب الكلاسيكي، بل منظومة اجتماعية وثقافية، تمارس الوصاية عليك. وهي في الحقيقة تعمل لصالح الشمولية التي تؤسس لمنظومة دفاعية تحميها من النقد والخدش”. يتابع قرور حديثه عن المشهد الثقافي بشكل دقيق ويوجه إليه نقدا قاسيا بسبب “ميوعة المنخرطين في المشهد”، كما يقول، ويرى أن العامل في الثقافة يحتاج “عادة إلى الصمت، ويبتعد عن الأضواء، أما الكسالى والمهرجون، فوحدهم يحبون الصخب والثرثرة، تسمع جعجعتهم ولا ترى إلا فضائحهم”. ويؤكد على أن “الانخراط في المشهد الثقافي، يتطلب أن تمتلك فكرة أو مشروعا تجسدهما في الميدان، أو تمتلك أدوات النقد والتحليل لمتابعة سيرورة المشهد، فبعض الذين ينخرطون في المشهد الثقافي، أدعياء ثقافة، متطفلون متسلقون ومهرجون، بلا أفكار وبلا مشاريع، وبلا تصورات، وبلا التزام وبلا مواقف. فهم يعيشون على الريوع الثقافية، ومع ذلك يسبون مؤسسات الدولة ويشتمون السلطة وهم أدواتها. أنا أحترم مثقف السلطة الملتزم بالشرح والتبرير للخطاب الرسمي، ولكنني أزدري ‘المتثاقف المايع’ الذي يأكل في كل المناسبات من موائد السلطة ثم يطلق عليها النار، وهذا ليس من المروءة”. ويشير قرور إلى الرأي السائد عن دور المثقف في أن يكون معارضا للسلطة، بالقول “إنها خاطئة، هذا دور المناضل والمعارض السياسي. لأنه يريد أن يحل محلها، ويرى نفسه أكفأ وأجدر منها في إدارة الشأن العام”. وفي رأيه أن “دور المثقف هو أن يكون سلطة ثقافية ومعرفية. دوره إنتاج المعرفة والأفكار، واقتراح المشاريع، ونقد السياسات والممارسات، واقتراح البدائل وعليه أن يكون في مستوى هذه السلطة بسلوكاته ومواقفه والتزاماته”. أضف إلى ذلك، يقول، إن الخطاب المروّج لنكوص المثقف “مقصود، تكرسه قوى تخاف الثقافي والفكري، وتخاف المثقف الفعّال الحر المسؤول الذي يترك مسافة بينه وبين السلطة، لأنه يمتلك أدوات الإنتاج والإبداع والنقد والتحليل ولا ينخرط في التبرير والدمغجة والتهافت”. يقول قرور “ظل المثقفون محتقرين ولا يسمع صوتهم، ولما جاء الحراك ارتفعت الأصوات أين المثقفون؟ هذا هو التناقض الصارخ في المجتمع التائه الفاقد للبوصلة، يرفضك وعند الحاجة يستنجد بك. طبعا المثقفون كانوا يشتغلون مشتتين وهذا خطأهم الأكبر، ولما جاء طوفان الحراك كانت شعارات الملاعب المخاتلة هي النشيد الرسمي للشوارع الهائجة، وحين رفعت شعارات المثقفين مثل ‘دولة مدنية وليست عسكرية’، كانت تحمل تناقضات المجتمع وقواه السياسية المتطاحنة ولم تكن تؤسس لأرضية تعايش وتعاقد مواطنة بقدر ما كانت تحرق في الميدان الأفكار النبيلة وتسفهها. ومع ذلك نتفاءل، قد يكون صوت المثقفين لاحقا، مسموعا، بعد أن تخفت أصوات جماهير الملاعب، حين يخفت صوت الغريزة يصدح صوت العقل”. غامر الروائي قرور في ميدان النشر وأسّس دار نشر أطلق من خلالها مشروع “كتاب الجيب”، عن هذه المغامرة يقول “كانت محفوفة بالمخاطر والصداع والإرهاق. برفقة الفريق الساهر على إنجاز المشروع. ومع ذلك فهي ممتعة. حقا لقد نسيت أني كاتب أصلا. منذ البداية، كان الجميع يرونني مجنونا وأنا أخوض تجربة مشروع ‘كتاب الجيب’ الذي يهتم بالثقافة الجزائرية خاصة والعربية والإنسانية عامة. دون اللجوء إلى دعم مؤسسات الدولة. والحقيقة أني كنت مؤمنا أكثر بتفهم المحيط ودعمه المعنوي. وقد نجحت نسبيا في إقناع طاقم الإشراف والتوزيع والمثقفين والإعلاميين ثم القراء لاحقا. ومع ذلك أقول نحن في حاجة إلى مناخ يحضن الكتاب والمقروئية. كما نحن في حاجة ماسة إلى سياسة ثقافية واضحة المعالم، تعيد للكتاب مجده”. ويتساءل “أليس غريبا أن دور النشر العربية والأجنبية تحقق أرباحا في الجزائر، بينما دور نشرنا تفلس وتغلق أبوابها، رغم الدعم السخي للكتاب الذي قدمته الدولة. في حين أقلام الصحافيين والمثقفين تروج لفكرة أن الجزائري لا يهتم بالكتاب. نعم لقد فشلنا ونجحنا في الفشل”. ويقول “نراهن اليوم في مشروع كتاب الجيب، على صناعة القارئ، وتوفير مناخ حب القراءة والإدمان عليها والاحتفاء بالكتاب، الملايين من المتمدرسين والمتعلمين يجب أن تستثمر لصناعة وعي التفاؤل والحركة والنهوض”. ويؤكد “لقد ظل القارئ لعقود رهين لبعض سماسرة الكتب الصفراء المذهبية والطائفية والتكفيرية بما تحمله من قيم معادية لثقافة الحياة والمحبة والتآخي، وتحفل بثقافة الموت وتحرض على القتل وتبرره ولا تعترف بحق الاختلاف في الرأي. لقد كلفتنا الكثير تلك الكتب المشبوهة. علينا اليوم الاحتفاء بكتب تكرس آداب الحياة والفضيلة وتمجد العلم والعمل وتشجع على احترام القانون. وتعلي من شأن الخيال. بالخيال نداوي شخصيتنا المهزوزة”. لهذا، فمشروعنا القرائي الواعد يقول “تعددي متنوع: جاء مبشرا بثقافة الحياة. والعيش المشترك واحترام الآخر. وحرية الاختيار. ورفض الوصاية على العقل. لا إكراه في الرأي. لا إكراه في القراءة. يحاول مشروعنا، أن يسدّ الفجوة الرهيبة. نحن ‘نذهب إلى القارئ’ بكتاب ثقافي بحجم صغير، يتماشى وعصر الملتميديا، شكله أنيق. وسعره زهيد. ومحتواه ثري، يمكن قراءته في وقت وجيز ويمكن أن يتبادله الأصدقاء، أو يهدوه لبعضهم في المناسبات، وقد يشتريه القارئ ليقرأه ويتركه في الحافلة أو القطار أو في فضاء عام ليطلع عليه غيره، ويكون له صدقة جارية، وهذا السلوك من روح ديننا”. ويأمل كمال قرور في القريب العاجل أن يطلق “مشروع مكتبة في كل بيت وفي كل مكتب. وهو عبارة عن رف عصري جميل مع مجموعة من سلسلة كتب الجيب، بسعر مدروس ويمكن أن يشحن مباشرة إلى عنوان طالبه”. وعن هذه المبادرة يقول “تستهوينا لتعميمها لاحقا في المقاهي وقاعات الحلاقة وقاعات الانتظار في المطارات ومحطات الحافلات والفنادق والبنوك والمستشفيات. نفضل أن يقرأ الجزائري في لحظة الانتظار أو الراحة، فقرة أو صفحة، بدل الثرثرة أو مراقبة الآخرين.. طبعا وحدنا لن ننجز إلا القليل من هذا المشروع الطموح، لذلك نحتاج إلى تكاثف جميع الشركاء، لنشره وتكريسه في المجتمع”.
مشاركة :