الشارقة:علاء الدين محمود «ألا يجدر بهذه الآلام العتيقة جداً أن تعطينا الثمر أخيرًا؟»، هكذا تحدث الشاعر النمساوي الأشهر رينيه ماريا ريلكه، «1875 - 1926»، والنص يفسر شخصية شاعرنا، فهو يحمل فكرة الانتظار بعد طول معايشة لآلام الحياة، وأوجاعها، لكنه لم يكن انتظاراً عبثياً كما عند رواد مسرح اللا معقول، بل كان يطور حوله أطروحة شعرية محتشدة بالأمل، والرومانسية، والرؤى الفلسفية التي تكشف عن موقف من الحياة والوجود، فقد عاش حالماً، ينسج من خيوط أوجاع الواقع ثوباً شعرياً قشيباً، بأفكار لامعة.الحاجة لريلكه، وخطابه الشعري، تظل راهنة وملحة جداً في أزمنة العزلة، وسيادة الوحشة في هذا العصر الذي يمضي فيه الإنسان فرداً وحيداً، وتتشظى فيه معاني الحياة الجماعية، فقد كان من أكثر الشعراء تعبيراً عن أزمة الإنسان المعاصر في ظل الحداثة والمدنية، حيث غاص عميقاً في تناقضاته الداخلية، وثقل الحياة عليه، وركز على مسألة القلق العميق الذي يسيطر على البشر، وصعوبة التواصل بين الإنسان، وأخيه، وكانت صعوبة الاندماج مسألة أساسية في نصوصه الشعرية، وكان مشروعه الفلسفي والفكري يتمثل في البحث عن خلاص للإنسانية.فكرة الاغتراب عميقة في نصوص «ريلكه»، المحتشدة بالصور التي تكشف الزيف في كثير من مناحي الحياة، وترصد الألم، والوجع، والتعب، وغير ذلك من السمات التي تبدو واضحة في وجوه الناس. سيرة الحزن يتناول ريلكه في أشعاره حياة البؤس، وسيرة الحزن، ويعلن عن مواجهتها بحس رومانسي، فقد كان رغم كل شيء مقبلاً على الحياة، محرّضاً على التمتع بمباهجها، وجمالياتها، وقد أطلق عليه وصف «الشاعر الذي قتلته وردة»، بسبب رقة عاطفته، وشعوره، وكذلك فإن للقب قصة أخرى، ففي أحد الصباحات من عام 1926، خرج ريلكه، إلى حديقة منزل يقطنه، من أجل أن يقطف الورود، وتلك عادة قديمة عنده، ولكن شوكة جرحته، وكانت السبب في اكتشاف إصابته بمرض سرطان اللوكيميا الذي تسبب بوفاته، ولكن شاعرنا ظل يقطف الورود ويسكب روائحها الفواحة في نصوصه، ولعل اللقب بصورة عامة يكشف عن تلك النزعة الحالمة الرومانسية عند ريلكه، الذي تأثر بشارل بودلير، في أسلوبه واهتمامه بتناقضات الحياة اليومية في المدن الكبرى.عاش ريلكه معظم حياته باحثاً عن الحرية المطلقة، يأبى أن يرتهن إلى جدران منزل تكبّل حركته، وتشعره بأن العالم ضيق، فقد أراد أن يحيا بلا روابط، ولا قيود، لذلك كان كثير السفر والترحال لا يكاد يلقي عصاه، وظل يحمل معه أحلام الكثيرين من فقراء، ومشردين، ومظلومين، ومنفيين، وكل الوجوه المغبرة المنسية التي التقاها في أسفاره، فقد كانت روحه الهائمة النبيلة تسعهم جميعاً، وفي نصوصه الشعرية صور معاناتهم. نص عميق وقصيدة «منتزه الببغاوات»، واحدة من النصوص العميقة التي كتبها ريلكه في باريس عام 1907، أثناء وجوده هناك في حديقة النبات، وتعد من أشهر أشعاره التي مزج فيها بين التأملات الرومانسية، والنزوع نحو الرمزية، فالقصيدة عبارة عن مشهد للببغاوات في الحديقة، وهي تتصايح مقلدة الزوار، وتمشي مختالة بريشها الملون، ولكن ريلكه، بحس الالتقاط العالي، جعل تلك الكائنات ترمز إلى بعض البشر، فهي حيوانات تميل إلى الكذب، ويصور شاعرنا كذلك المشهد العام للحديقة، خاصة تلك الأشجار الضخمة المجلوبة من الخارج، والتي تعيش حياة بعيدة عن موطنها، وإلى جانب تلك الصورة الساخرة، فإن القصيدة تركز بصورة أساسية في معانيها على مفهوم الاغتراب، فالببغاوات لا تنتمي إلى المكان، وهي تخرج في بعض الأحيان مجموعة أصوات حزينة تدل على حنينها للوطن الأم، ولكنها تروّح عن نفسها طيلة اليوم بالسخرية من الناس، وتقليدهم.تقول القصيدة: تحت شجرِ الزَّيزفون التركيِّ المُزهرِ/ على حوافي المَرج المُعشَوشِبِ/ تتنفّس الببغاواتُ بهدوء في مواقعها المتأرجحة/ وقد هزّها الحنينُ إلى أوكارها/ فأخذت تفكِّر في أوطانها/ التي، وإنْ لمْ تَقعْ أعينُها عليها، لا تتغيَّر/ غُرَباءُ في هذه الخضرةِ المتزاحمة كموكب استعراض/تتباهى وتتعالى وتشعر أنَّها فوق الجميع/ وفي مناقيرها الثمينة المصنوعة من اليَشْمِ واليَشَبِ/ تعلك شيئاً رمادياً وتقذفه بعيداً/ لأنها لا تستسيغ طعمَه/ ومن تحتها تلتقط الطيورُ الحَزانى ما قَذَفتْه/ بينما تنحني الببغاواتُ الساخراتُ من فوقها انحناءةَ استهزاءٍ/ وبين كلتيْهما تفرغ أواني الطعام سريعاً/ وتبدأ بالتأرجح مرةً أخرى وتنامُ وتراقبُ/ وبألسُنها السّودِ التي تنطق الكَذِبَ عن طيب خاطر/ تعبث بسلاسل الأغلال في أرجلها تنتظر المشاهدين.قصيدة محتشدة بالصور، ورغم أن المشهد حزين، لكن من الصعب التقاط ذلك الحزن من قبل القارئ، فشاعرنا يجيد فن إخفاء الكآبة في النص الشعري، فلا شيء تفعله تلك الببغاوات الغريبة المجلوبة من بلاد بعيدة سوى الترويح عن البشر، تلك هي مهمتها، ولكن الزائر للحديقة لن يفكر في ذلك الأمر، وربما لن يهتم به كثيراً.
مشاركة :