راودتني عشرات الأسئلة المتعلقة بطبيعة الكتابة الروائية، وأنا أقرأ «الثوب» للكاتب الكويتي طالب الرفاعي من بينها: ما الذي يجب أن يتوافر في متن سردي يستثمر فيه كاتبُه تفاصيل سيرته الذاتية، وتفاصيل يومياته في أمكنته المعهودة، من غير أن يقع القارئ في الملل؟ أرى أنّ لا وصفة جاهزة في هذا الباب، ليس في فن الرواية فقط، بل في فنون أخرى مثل السينما والمسرح والطبخ. فالراوي هو نفسه طالب الرفاعي، إنسانًا وفنانًا ووجها ثقافياً كويتياً/ عربياً معروفاً. يخرج من بيته إلى موعد مع شخصية اقتصادية وازنة في البلاد، فيضطر القارئ إلى مرافقته، لا لأن سبب الدعوة مجهول ومثير للفضول، بل لأن هناك سلطة خفية تحملك على ذلك، هي سلطة التفاصيل الصغيرة للحالة/ الطريق، كأنك على اتصال مباشر بقمر اصطناعي. هذه حال من لم يزر مدينة الكويت العاصمة، فكيف هي حالة من زارها؟ فكأن القارئ هو السائق. تدخل إلى مكتب رجل الأعمال مع الرفاعي، وربما قبله، تمدّ يدك لتصافح الرجل، وتأخذ حبة من التمر الممتاز، وفنجان القهوة العربية بالهيل. يحدث أن يلوّح الضيف بالفنجان علامة على الاكتفاء، فيما تمدّ أنت الفنجان إلى الخادم الهندي مستزيدًا. أنت هنا مرافقاً ولست تابعًا، متى ينتبه بعض الكتّاب العرب إلى هذا المستوى من التلقي؟ تغفل عن الحديث الدائر بين الرجلين المهمين، كل في مجاله، على رغم أنه حديث نادر، ليس من جهة أن رجل الأعمال طلب من الروائي أن يكتب حياته الخاصة في رواية فقط، بل لندرة أن يلتقي ثري عربي بكاتب عربي مثله، وتطلق العنان لعينيك ترعيان تحف المكتب الأنيق، حتى أنك تهم بمقاطعة صاحبه، وهو يناضل من أجل إقناع ضيفه بعرضه، عن هوية هذه اللوحة، ومصدر هذا السجاد، وثمن هذا الفخار. كنتُ غارقًا في ملامح الشاب الهندي، صبي الشاي الواقف عند الباب، تحسبًا لأية خدمة طارئة، وأسأل عن طبيعة ما كان يفكر فيه في تلك اللحظة؟ هل لديه حبيبة أو زوجة هناك؟ هل يتواصل معها عبر «السكايب»؟ أم أنه مشغول عن الحب والزواج بإرسال المال إلى أسرته الفقيرة؟ في الحقيقة يعدّ طالب الرفاعي، من أكثر الروائيين الخليجيين السبّاقين إلى التعاطف مع العمالة الأجنبية في بلدانهم. هذا ما لمسناه في مجموعته القصصية «أبو عجاج طال عمرك» (1992)، وروايته الأولى «ظل الشمس» (1989)، كونه يكتب بحس إنساني عميق يجعل القارئ ينتبه إلى زوايا/ خفايا تعمل الجهاتُ الرسمية على التغطية عليها. وفجأةً يصبح حديث الثنائي يعنيني مباشرة بصفتي جزائريًا. سأل رجل الأعمال المتململ في ثوب أكبر منه ضيفَه عن رحلته الأخيرة إلى الجزائر في إطار الأسبوع الثقافي الكويتي. بالمناسبة كان زمن الرواية والرحلة معًا سنة 2007، وكانت فرصة لأن أستضيف الروائي في برنامجي التلفزيوني «وجهة نظر»، فعبّر الرفاعي عن إعجابه بالجزائر إنسانًا ومكانًا، وحدّثه عن أصدقاء كرماء له فيها، في طليعتهم الشاعر بو زيد حرز الله. كان يهمّني أن أسمع ما يُقال عن بلدي، فنسيتُ المكتب بسجّاده ولوحاته وبخوره الذي يُنعش الروح والجسد، تمامًا كما نسيتُ أن أذكر أننا لم نكن ثلاثة في المكتب: خالد خليفة رجل الأعمال، ليس خالد خليفة الكاتب وصديق طالب الرفاعي، وطالب الرفاعي الروائي نفسه، وأنا لحظة القراءة في بيتي في الجزائر العاصمة، بل كان رابعَنا عليان. أجد صعوبة في تقديمه، على رغم أنه ذو حضور عميق في وجدان الروائي، وفي البنية الفكرية والنفسية للرواية، بل إن بعد السير ذاتي فيها كان سيكون مزعجًا ولا يعني إلا صاحبه، لولا عليان هذا. مهلًا إن استعمالي لضمير الإشارة هنا لا يعني استخفافي به، كما قد يوحي به السياق، بل للتأكيد على صعوبة تقديمه، عكس سهولة تقديم بقية شخوص الرواية، من أصدقاء الروائي/ الراوي مثل التاجر سليمان، وأفراد أسرته مثل زوجته السيدة شروق، وعدنان ولد أخيه الأكبر الذي رأى فعشق، ثم تزوّج فغرق، ولا أخفي انزعاجي من مكالماته وزوجته التي تُغرق الروائي/ الراوي في متاهات، تمامًا في الوقت الذي أكون فيه أنا/ القارئ مستمتعًا بطرح الأسئلة. من المفارقات الجمالية في رواية «الثوب»، أنها تنخرك بالأسئلة في وقت أنها منخورة بالتفاصيل، ويعد وجود عليان واحدًا من البواعث الرئيسة على السؤال رغم أنفك. وجدتها: عليان هو روح السؤال في وجدان الروائي طالب الرفاعي. هل أستطيع أن أقول إنه هو ضميره؟ ليس حذرًا مجانيًا مني، لكنني أؤمن بوجوب توخي الحذر حين الحديث عن الضمائر. لم تكن مكالمات عدنان وزوجته بدور مصدر التشويش الوحيد علي، لحظة القراءة/ التماهي، بل تحالفت عليَّ مشوشات كثيرة، منها اقتحام ابنتيّ «علياء ونجمة» خلوتي طالبتين رأيي في «البيبيات» التي قامتا برسمها، وزوجتي التي عودتني على أنها إذا دخلت علي، وأنا في حالة كتابة/ قراءة، فإنها تواجه مشكلة لا يحلها سواي، ومن قلة المسؤولية التخلي عنها، أما الهاتف والفايسبوك، فقد خنقتهما طيلة العشية والليلة اللتين قرأت فيهما «الثوب». لذلك واجهتُ عتاباً مراً من صديقي بائع السمك: ما معنى أن تغلق هاتفك في هذا الوقت بالذات؟ لقد طلبتك عشرات المرات، لتعطني رواية أستعين بها على عطلة نهاية الأسبوع، تعلم أن الجمعة يوم ميت في الجزائر. صديقي هذا، تسرّب من المدرسة باكرًا واحترف بيع السمك، لكنني لم أجد عاشقًا للنبيذ والروايات مثله، وله في الحكم عليها معاييرُ مجنونة، فالرواية الموفقة عنده، هي تلك التي تجعله يؤخر وجبته، أو يأكل وهو يقرأ/ يؤجل بولته، أو يأخذها معه إلى الحمّام، لا يرد على مكالمة صديقته، أو يفتح الهاتف ويكتفي بالقراءة بصوت مسموع، حتى تقطع هي من طرفها، أما إذا لم تفعل معه هذا، من صفحاتها العشر الأولى، فهي رواية «خايبة» بتعبير إخواننا التوانسة. قياساً على معايير صديقي بائع السمك، جعلتني رواية «الثوب» أتورّط في التقصيرات التالية: أخلفت وعدي لصديقي الروائي أحمد زين بإرسال مقال لينشره في مجلة «الفيصل» التي التحق بها حديثًا. نسيت أن أرسل احتجاجًا مكتوبًا إلى وزارة الثقافة على إقصاء نصي المسرحي «رقصة الهاوية» المقتبس عن رواية «الجازية والدراويش» لعبدالحميد بن هدوقة، من التجسيد، بعدما أقرّته لجنة القراءة التابعة لدائرة المسرح/ قاطعت مسلسلا تركياً كنت أتابعه مع أم علياء، منذ الصيف الفائت، وقد قاطعت من أجله زياراتٍ عائلية في السابق/ تركت عمودي الأسبوعي «خيوط» قبل أن أكمله، ولم يحدث لي بعض هذا في الشهور الأربعة الأخيرة إلا مع رواية «من أعاد دورونتين؟» لإسماعيل كاداريه، و»الركض مع الذئاب» لعلي بدر، و»ضجيج الجبل» لياسوناري كاواباتا، و»اسمي أحمر» لأورهان باموق. لا يهمني، وأنا أهمّ الآن بترك الكتابة لمصلحة الوسادة، أن أقول إن طالب الرفاعي استجاب لرغبة رجل الأعمال في أن يكتب رواية عن حياته الخاصة، أم لم يستجب، فذاك متروك لرغبة من يقرأ في أن يقرأ، بل القول إنه كتب حفرية في النسيج الاجتماعي الكويتي، بلغة ومعمار مغامرين جدًّا، لم نعهدهما، على الأقل، في جيله داخل المشهد الخليجي، وشعاره في ذلك الجملة الأخيرة من الرواية: «الكتابة مخاطرة بدءاً ومنتهى». ما ألذ هذا المطر خارج البيت. * كاتب جزائري
مشاركة :