بعد سنوات على فيلمها الروائي الطويل الأول الذي جاء بعنوان «المرّ والرمان»، في العام 2008، من بطولة علي سليمان وياسمين المصري وأشرف فرح، وآخرين، تعود المخرجة الفلسطينية نجوى النجار بفيلمها الروائي الطويل الثاني «عيون الحرامية»، في العام 2014، ولكن هذه المرة مع بطلين جديدين غير متوقّعين لفيلمها: النجم المصري الشهير خالد أبو النجا، والمغنية الجزائرية سعاد ماسي، في ما يبدو أنه مغامرة أولى لناحية أن تستعين السينما الفلسطينية، لا سيما في سياقها الجديد، بممثلين رئيسيين غير فلسطينيين، ربما في مسعى لكسر حال انغلاق السينما الفلسطينية على ذاتها، والتأسيس لانفتاحها على السينما العربية. جدل يتجدد وكما أثارت نجوى النجار جدلاً مع فيلمها الأول، «المرّ والرمان»، أقلّه على مستوى المضمون، وطريقة التناول والسرد والعرض، بخاصة وهو يتماسّ بحكايته مع حال زوجة فلسطينية شابة، توارى زوجها الشاب الأنيق خلف قضبان الاعتقال الإسرائيلي، فتاهت مشاعرها واختلطت، ما بين زوجها المُغيّب قسراً، ومدرب الرقص القويّ الحضور، فإن فيلمها الثاني «عيون الحرامية» لم يبتعد كثيراً عمّا يشبه الجدل ذاته، تارة بسبب استعانتها ببطليها المصري والجزائرية، وهما أقرب إلى نجوم الشباك الذي لم تقربه السينما الفلسطينية من قبل، وأخرى بسبب من موضوع الفيلم الذي لم يخفِ أبداً أنه يستقي شيئاً من موضوعه من «واقعة حقيقية»، ويذهب بها بعيداً، من ثمّ. ونجوى النجار، المخرجة الفلسطينية التي درست السينما في الولايات المتحدة الأميركية، وحققت عدداً من الأفلام القصيرة والوثائقية، هي «نعيم ووديعة» في العام 1999، و «جوهر السلوان» في العام 2001، و «صبي (ولد) اسمه محمد»، جاء ضمن فيلم جماعي طويل بعنوان «ومرة أخرى» في العام 2002، وفيلمها «ياسمين تغني» في العام 2005، بدت دائماً حالة متميزة بخصوصيتها في سياق «السينما الفلسطينية الجديدة»، مخرجةً تحاول الخروج عن الصورة النمطية المعهودة في هذه السينما، بما يتوافق مع رؤيتها ونزعتها، بوصفها فتاة شابة تحبّ الحياة وتصنع السينما كما تؤمن بها، لا تحت ضغط المقاييس المألوفة في تناول القضية الفلسطينية. مع «المرّ والرمان» (95 دقيقة، 2008)، ابتعدت نجوى النجار عن الصورة النمطية خطوة، ولكنها جريئة، فعلى رغم أنها تتناول حكاية معتقل فلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وحكاية زوجة ذاك المعتقل، التي من المعهود أنها ستبقى في انتظاره وعلى وفاء وإخلاص لا يدانيهما أيّ شك أو ريب، إلا أن نجوى النجار ذهبت إلى تفاصيل ومواقف، كان من الطبيعي أن تكون صادمة للمشاهد الفلسطيني، ليس لأنها غير مُتوقعة فقط، بل لأنها قبل ذلك ومعه، كسرت ما يمكن تسميته «قدسية الصورة النمطية» تجاه المعتقلين الفلسطينيين، ونسائهم، على رغم أن الفيلم لم يذهب بعيداً أبداً، وعاد إلى «حظيرة السلامة» في النهاية. هذه المرة يقوم «عيون الحرامية» (98 دقيقة، 2014)، على ما يشير الفيلم منذ بدايته إلى أنه واقعة حقيقة، ولكن لا الفيلم سيقصّ علينا مُجريات ما حدث في تلك الواقعة، ولا الأحداث التالية ستمضي في استقراء تداعياتها على أبطالها الحقيقيين، طالما هي واقعية. تماماً إلى درجة أن الباحث أو المتابع سيجد فوارق ملحوظة ما بين الفيلم وأحداثه وسياقاته وشخصياته، من جهة، وتفاصيل تلك الواقعة الحقيقية، وشخصياتها وأحداثها وسياقاتها، من جهة أخرى، لتكون الواقعة الحقيقية مجرد اتكاء للانطلاق الدرامي للفيلم نحو شخصيات وقصص وحكايا وتفاصيل ومقولات، أرادها الفيلم ولم يقلها الواقع، وفي هذا حقّ للكاتب والمخرج طالما أنه يزمع بناء عالم سينمائي روائي متخيّل، يحمل هموماً وقضايا يرى أنها ذات أهمية، وتتعلّق بالذاكرة والوجود والمصير، بالهمّ والاهتمام. في الواقع، سيجد من يسعى وراء التفاصيل أن عملية «عيون الحرامية»، جرت في العام 2002، في وادٍ يحمل الأسم نفسه، شمال مدينة رام الله، في الضفة الغربية، وذلك عندما قام أحد عناصر «كتائب الأقصى»، واسمه ثائر حماد، من قرية سلواد، باستهداف حاجز للجيش الإسرائيلي، فقتل 11 جندياً إسرائيلياً، على الأقل، ولم يتمكّن جيش الاحتلال الإسرائيلي من إلقاء القبض عليه إلا بعد سنتين من التعقب والرصد والمطاردة، أي في العام 2004، وحُكم عليه (لأن لا أحكام إعدام لديهم) بالمؤبد 11 مرة، على عدد الصرعى من جنود الاحتلال على يديه. الأصل في هذه العملية الفدائية، أن فتىً فلسطينياً، ينتمي إلى كتائب فلسطينية مقاومة مسلحة، قام بعملية عسكرية فردية ضد حاجز لجيش الاحتلال الإسرائيلي. وفي المعنى تتصل هذه العملية، بموضوع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بالقوة والسلاح، بخاصة من ناحية المبادرة الفردية، كما تتصل بموضوع الحواجز والمعابر التي تحترف إذلال الفلسطينيين، وقهرهم، وتعميق معاناتهم اليومية، في رواحهم ومجيئهم، حتى لو كانت حركتهم من أجل الاستطباب والعلاج، أو الدراسة، أو العمل، كما تتصل بواقع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، داخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وبُعيد إطلاق سراحهم، وإعادة اندماجهم في المجتمع بعد سنوات طويلة من الاعتقال. نحو مأساة فردية وفي وقت تتفق الشرائع والقوانين جميعها، الدينية منها والوضعية، على الحقّ التام بمواجهة المُحتلّ بالطُرق كلها، بما فيها القوة العسكرية، وتنادي بأدنى الحقوق الإنسانية للفلسطينيين تحت الاحتلال، والاهتمام بشؤون الأسرى والمعتقلين، خلال اعتقالهم، وبعد إطلاق سراحهم، فإن كل ما سيأتي تالياً في فيلم «عيون الحرامية» سيكون منصبّاً على المأساة الفردية للفدائي طارق خضر، بطل الفيلم باعتباره من قام بتلك العملية، وقضى عشر سنوات سجناً، بحسب الفيلم، وخرج من دون أيّ ظهير يسانده، ووُجه بالنكران من رفاقه وأهله، ليجد نفسه معنياً بالبحث عن ابنته، التي لم يعد يعلم عنها شيئاً منذ عشر سنوات، مدة اعتقاله، وسعيه بالتالي لاستعادتها إلى أحضانه، وقد غدت صبية يانعة. يستغـــرق فيلم «عيون الحرامية» وقته في رصد هذه الرحلــة، من دون أي اهتمام بخلفياتها السياسية، هي رحلة بحث طارق عن ابنته، ومحاولته استعادتها، وقد قادتـــه الطرق إلى نابلس، ثاني أكبر مدن الضفة الغربية وعـــاصـــمة شمالها، حيث يمكنه استخدام خبرته في مجال «شبكات المياه» للبقاء والعيش في نابلس، ومن ثمّ الاندماج في مجتمعها بطريقته، ما سيقوده إلى الغوص في مشاكل متعددة، ما بين معاناة المرأة واستغلالها وقهرها، كما في مشغل النساء، ومسائل الفساد والكسل والتواكل في عالم ذكوري يعيش أكثر أوقاته في المقهى وعلى قرقعة التسالي، وصولاً إلى مشكلة الاستغلال والسرقة والتواطؤ، بخاصة في ما يتعلق بأزمة المياه في الضفة الغربية، التي نعرف أنها مأزق حياتي ووجودي لمجتمع غالبيته فلاحيّ. خلال أقل من ساعتين، يأخذنا فيلم «عيون الحرامية» إلى طوابق متعددة ومتراكبة ومتتالية، ويتنقل ما بين حالات وشخصيات وحكايات وقصص، كلّ منها تستحق فيلماً بذاته، إلى درجة بدا أنه يُفلت كلّ منها من دون إشباع درامي، أو ذهاب نهائي، فما بين قصة الفدائي الذي قرّر بنفسه مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وحاجز جنده، بالقوة من خلال عملية فدائية (بمعزل عن انتسابه الفصائلي)، وقصة المُعتقل الفلسطيني الذي خرج من السجن الإسرائيلي بعد عشر سنوات، وما يواجهه من صدود وإنكار من مجتمعه (الأهلي)، ومن فصيله (المُسلّح)، ومن السلطة الفلسطينية (السياسي)، وقصة الأب الباحث (إنسانياً) عن ابنته الصبية المُفتقدة منذ اعتقاله، وعلى مدى سنواته، وقصة «مهندس شبكات المياه»، الذي صاره، وما يلاقيه من ملابسات تكشف الفساد والتواطؤ حتى مع المحتل ومستوطنيه، وقصص أخرى متفرعة، يبدو أن فيلم «عيون الحرامية» فرش بساط الحكايات المتعددة، إلى درجة أنه لم يعد قادراً على لملمته. لا شك في أن المخرجة نجوى النجار أدارت ممثليها الأساسيين باقتدار، ما بين الحذر من توريط خالد أبو النجا بما لا يقدر عليه، وإعفاء سعاد ماسي مما هو أكثر من إمكاناتها التمثيلية المحدودة، فأظهرتهما في صورة حسنة، منتبهين أصلاً إلى الاختيارات التي قادت الفيلم إليهما، كالإستفادة من نجومية أبو النجا في التسويق، من ناحية، والتنويه بالدور الإنتاجي الجزائري الأساس في الفيلم، من خلال الاستعانة بماسي، من ناحية ثانية، ذاك مما كان من المُنتظر أن يحقق قيمة فنية مُضافة، فضلاً عن الشأن الإنتاجي التسويقي، ومن دون أن ننسى التنويه بالحضور اللطيف للأطفال، وطاقم التمثيل الفلسطيني عموماً. وكما في فيلمها الأول «المرّ والرمان»، كذلك مع فيلمها الثاني «عيون الحرامية»، تثبت نجوى النجار أنها مخرجة سينمائية محترفة، ذات رؤية ومهارة في التنفيذ والتنظيم الباديين على شريطي الصورة والصوت، وبناء حياة فلسطينية راهنة، غنية بالتفاصيل والشخصيات والأحداث، والانتقالات والتحولات، وإن كان على السيناريو أن يأتي أكثر إحكاماً، بخاصة وهو ينوي تشريح حالة فلسطينية موجعة بملابساتها، ما بين مطرقة الاحتلال وسندان الفساد.
مشاركة :