القاهرة: "الخليج" يعد كتاب «فرانز فانون والثورة الجزائرية» لطه طنطاوي، أول رسالة علمية عن أعمال المفكر فرانز فانون. وعلى الرغم من أن مولده ونشأته المبكرة كانت خارج القارة الإفريقية، حيث ولد عام 1925 في جزر المارتينيك، فإن مسارات حياته تعليماً ومعايشة جعلته من أبرز المفكرين الأفارقة تأثيراً في فكر وحركة النضال التحريري الإفريقي. على الرغم من عمره القصير الذي لم يتجاوز 36 عاماً، فإن أفكاره ونضالاته ربما يستمر تأثيرها لقرون عدة، تلهم المناضلين من أجل الحرية والعدالة. ولد فانون في أسرة ميسورة الحال، مكنته من دراسة الطب النفسي في مدينة ليون بفرنسا، وبحكم حمله للجنسية الفرنسية كان من غير المتوقع في ظروف كهذه، أن يظهر كمفكر ومناضل على الساحة الإفريقية، غير أن أحداثاً عدة غيرت مجرى حياته تغييراً كلياً، منها إحساسه بمظاهر التفرقة العنصرية بشكل مبالغ فيه، بعد لجوء فريق من البحرية الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية إلى جزر المارتينيك، وممارسة هؤلاء أبشع أنواع العنصرية بحق سكانها على اختلاف أوضاعهم الاجتماعية، بحكم كونهم من الجنس الأبيض، ومنها إحساسه بممارسة قدر كبير من العنصرية ضد أبناء جلدته، حين التحق بالجيش الفرنسي لمقاومة النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم طريقة التعامل مع في فرنسا أثناء دراسته للطب النفسي، وتخرجه عام 1951، وأثناء عمله في مستشفى سان ألبان بفرنسا، فضلاً على معايشته تجربة الحرب، حين انتقل للعمل في الجزائر، وإدراكه لجسامة الجرائم التي ترتكبها فرنسا ضد المناضلين الجزائريين، كل هذا وغيره دفعه إلى الاستقالة من عمله كطبيب في مستشفى بليدة، وتخليه عن الجنسية الفرنسية، والالتحاق بجيش التحرير الجزائري، ليكون ممثلاً لجبهة التحرير الجزائري في المؤتمرات الدولية. كان من الطبيعي أن يكون فانون على الرغم من عمره القصير حاسماً في رؤاه الفكرية، وحازماً في انحيازاته للشعوب الإفريقية دون مواربة؛ بل وانحيازه للفلاحين بصفة خاصة، بحكم كونهم يشكلون الأغلبية المضطهدة، وتكفي هنا الإشارة إلى بعض مقولاته: «أنا أريد شيئاً واحداً، ألا وهو نهاية استعباد الإنسان للإنسان، واستعباد الآخر لي، ذلك سيضمن لي أن أكتشف وأن أجد الإنسان في أي مكان يكون». وفي خطاب استقالته من مستشفى بليدة وانضمامه لثوار الجزائر، يقول: «منذ أشهر عديدة وضميري يخضعني لنقاش حاد، خلاصته عدم اليأس من الإنسان؛ أي عدم اليأس من نفسي، ولذلك صممت على ألا أتحمل مسؤولية أي موقف سلبي بالاستمرار في العمل». وفي خطاب كتبه، وهو على فراش المرض، قبل وفاته بوقت قصير يقول: «ما أريد أن أقوله هو أن الموت يلازمنا دائماً، فليست المسألة هي كيف نهرب منه؟، لكن ما إذا كنا حققنا أقصى ما نستطيع للأفكار التي عملنا من أجلها. والذي يهزني حقيقة في سرير مرضي ليس حقيقة أنني سأموت، لكن أن أموت بمرض اللوكيميا في واشنطن، بينما كان يمكن أن أموت منذ ثلاثة أشهر في مواجهة العدو (يقصد فرنسا)». رصد فانون التحولات التي أحدثها الكفاح المسلح في بنية المجتمع الجزائري، وقدم إسهامات نظرية وعملية كان لها تأثيرها العميق في مسيرة الثورة، وأصدر في ذلك كتابه المهم «خمس سنوات على الثورة الجزائرية» الذي ترجم أحياناً تحت مسمى «سوسيولوجيا الثورة»، وكانت له أيضاً إسهاماته الفكرية في مجال العمل على تحقيق استقلال ووحدة إفريقيا والعمل على نهضتها. لم تكن كتاباته وليدة تنظير مجرد مجاف للواقع، لكنها اشتملت على خبراته العملية الناجمة عن انخراطه في الجيش الفرنسي إبان حرب التحرير ضد النازية من جهة، وفي صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية في ما بعد من جهة أخرى، ومن مشاهداته ومتابعته لنشأة وتطور حركات التحرير الوطني في أرجاء القارة الإفريقية، كما أن كتاباته لم تقف عند توصيف الاستعمار وتفسيره؛ بل تعدت ذلك إلى العمل على كيفية التخلص منه وسبل مواجهته، وهي تؤكد بشكل حاسم أن الاستعمار هو المسؤول عن ثقافة العنف، بخلقه مناخاً عاماً من الممارسات العنيفة والوحشية.
مشاركة :