فرانز فانون.. صوت أفريقيا الضائع

  • 12/28/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في سبعة فصول يقدّم لنا ديفيد كوت سيرة المناضل فرانز فانون، بعنوان “فرانز فانون: سيرة فكرية”، بترجمة عدنان كيّالي وتقديم فوزي سليسلي، وهي صادرة عن منشورات مدارات للأبحاث والنشر. وفي عبارة موجزة يقول ديفيد كوت إن من خَلَقَ فانون، هو الرجل الأبيض، ويقصد بهذه العبارة حسب تحليل فوزي سليسلي في مقدمته التي وضعها للكتاب،”أن المقصود بها أن الصرخة القانونية، بعنفها وعنفوانها، وببعديها الثوري والفلسفي، بنفسيتها التي ترفض المهادنة وأنصاف الحلول، ما هي إلا نتاج لغطرسة الرجل الأبيض وبطشه بمخلوقات الأرض بكل أشكالها وأنواعها”. عار العنصرية استحضار سيرة فانون، يتأتّى كنوع من الدفاع عن فكر مقاوم مستميت ضدّ الاستعمار، وهو الفكر الذي صقلته تجربة مقاومته للاستعمار في بلد عربي نامٍ، ومع الأسف احتكرته الأكاديمية الغربية، التي سعت إلى تقزيمه واختزاله في مسألتيْن هما الغضب والعنف، وهو التلفيق الذي يستميت الفكر الغربي في إلصاقه بعدد من المفكرين الثوريين والتحرريين غير البيض كمالكوم إكس وحركة الفهود السوداء، والكثير من المفكرين والقادة العرب والمسلمين والأفارقة وقادة مفكرين من الدول المستضعفة. وهذا التقزيم مُتعمَّدٌ بنيويًّا لأنَّ البنيّة المعرفيّة للفكر الغربي تقدّم نفسها على أنها الحامل الوحيد للفكر الإنساني التنويري، وتُبقي فقط أفكار جان جاك روسو وفولتير وإيمانويل كانط وثيودور أدورنو. وهو ما يشير إلى عنصرية تصل إلى حدّ الإقصاء لكل ما هو غير أبيض. نجح فانون في إيجاد أرضية تفاهم مع مشروع الثورة الجزائرية، حدا به لأن يصل إلى فهم تطلعات الجزائريين للحرية، من خلال تجرده من الأفكار الأوروبية العنصرية التي كان يحملها تجاه العرب. وهو ما يفقتده زملاؤه اليساريون والليبراليون الأوربيون، حيث كانت ثمة ازدواجية تتمثّل في تعاطفهم مع القضايا البعيدة عنهم كفيتنام وكوبا، أما في الجزائر فكانوا يرفضون أي مشروع تحرري لا يجعل من قيمهم الغربيّة محوره، ولا ينصبّهم قادةََ فكريين وروحانيين، أو حتى يجعل منهم المرجع الوحيد والأساسي لذلك المشروع. وهذه الازدواجية تُسهِّلُ لنا فهم تقييم الغرب لهذه الصّراعات الدائرة في أرض الشرق الآن، وكذلك موقفهم من القضية الفلسطينيّة، وموقفهم الباهت من نتائج الثورات العربية، وحالة الارتخاء التي بدوا عليها في تأييدهم للفاشية التي تُمارسها الأنظمة ومن يناصرهم دفاعًا عن عروشهم. فتقييم الغرب لفانون يكشف عن هذا البون الشاسع في طرح الأفكار وتبني الرؤى الخلّاقة للسلام، والفشل في تطبيقها لتعارضها مع مصالحها في هذه البلدان. وهو الأمر الذي يكشف أن سياسة دول الغرب للتعايش والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة وغيرها، كما يقول “سليسلي” ليست سوى قناع لهيمنة سياسية واقتصادية لا تخدم في النهاية إلا طائفة الرجل الأبيض ومؤسساسته العنصرية. ليست أفكار فانون محل زهو وتقدير، وإنما هي أفكار قابلة للنقاش والجدل خاصة ما هو مُتعلِّقٌ بتمجيد العنف، وقدرته التحويلية التي تخلق من المضطهَد رجلًا جديدًا حرًّا، قويًّا قادرًا على ردّ الصاع صاعين، وقادرًا على فرض احترامه وشروطه على خصومه، وهي أفكار مستمدة من نيتشه، وحديثه عن الرجل الجديد أو القوي. وقد تباينت ردود الأفعال حولها، فسارتر مجدّها حيث يرى أن قتل المستعمِر ينتجُ عنه شيئان، قتل الظلم وولادة إنسان حرّ. في حين انتقدتها حنة آرندت. تُحسب لفانون تبنؤاته، بفشل الثورات التحررية، وبفشل النخب الوطنيّة بعد الاستقلال في تحويل الاقتصاد الاستعماري إلى اقتصاد وطني، وبأنها ستستولي على امتيازات المستعمرين بعد خروجهم، وستصبح هذه النخبة، رغم كل شعارات التطوّر والتقدم والنمو التي رفعتها، مجرد وسيط بين اقتصاد المُستعمَرة السابقة والدولة الاستعمارية والنظام الرأسمالي. كما تنبأ بأن النخب الحاكمة ستضرب بكل مبادئ الوحدة عرض الحائط. وستشحن المواطنين بأحاسيس الكراهية ضد شعوب مضطهدة باسم الهوية الوطنية والشرف الوطني. في هذه السيرة الفكرية، لا يقترب المؤلف ديفيد كوت من الحياة الشخصية لفانون، إلا بقدر البحث عن الخلفيّة النفسية الاجتماعية، وتأثيرها على تكوين فانون، فيرى أن فانون عانى طيلة حياته من التمييز العنصري، وإنْ توهم في شبابه بأنه قضى على حاجز اللغة بفضل ثقافته وطاقاته الشخصية. ومع هذا حقق أعلى المستويات العلمية واقترن بفتاة فرنسية وعُيّن رئيسًا لدائرة علم النفس في مستشفى البليدة – جوانفيل بالجزائر، ولكن ظلت بشرته مع ذلك سوداء. اللافت أن التمييز لاحقه حتى في العالم الثالث الذي كان الكفاح ضد الاستعمار قد وحّد بين شعوبه، إلا أن نظرة اللون طاردته. كما يحلّل أفكاره من خلال كتبه، فيبدأ في الفصل الأول بمناقشة كتاب “بشرة سوداء أقنعة بيضاء” عبر منظورين؛ الأول يتمثل في العلاقة بين فكر فانون والتراث الغربي، والثاني متمثل في علاقته بالتراث الإصلاحي الزنجي. في كتابه “بشرة سوداء أقنعة بيضاء” لم يتوسّل إلى الغرب، بل عمل على تفكيك المؤسسة العنصرية البيضاء، وتاريخها انطلاقًا من مبادئ عقلية وفلسفية. ويرفض المؤلف أن يربط بين فانون وجيفارا، ففانون لم يصبح رجلاً مناضلاً إلا في أثناء الثورة الجزائرية، أما جيفارا فهويته ومكانته مستمدتان من جمعه بين شخصية المناضل وشخصية العقائدي، ثم عضو العصابات القيادي. العنف والروح الزنجية يبحث المؤلف وهو يسرد هذه السيرة الفكرية عن جذور الروح الزنجية التي تشربتها أفكار فانون وكان صوتها المذود عنها، وهي مستمدة من موضوعات تراث الكاريبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وأكثر تحديدًا من الحركة الوطنية المحلية في المستعمرة الفرنسية السابقة هايتي. وكذلك يبحث عن المؤثرات في كتابات فانون التي يردها إلى أفكار هيغل وماركس ونيتشه وفاليري ولاكان وبياجية وموليير وجيد ودوهامبل وسارتر وميرلو بونتي. إضافة إلى المحللين النفسانيين كفرويد ويونغ وإدلر. وكذلك لعلاقته بسارتر، التي جاءت عبر تأثير التعاليم السارترية بوصفه فيلسوفا وقصاصًا وكاتبًا مسرحيّا، ومفكرًا اشتراكيًّا، التي كانت سائدة في الفترة التي بدأ دراسته في فرنسا بعد الحرب العالمية. الاستعمار في نظر فانون مرادف للعنف السياسي والعسكري والثقافي والنفساني، ومن ثمَّ لا يمكن أن يَقضي عليه إلا عنف مماثل ومعاكس. ونظرته للعنف مستمدة من واقع حي شاهده في الجزائر وأفريقيا، ومن ثم يبدو عنف فانون بمثابة عنف العدالة وتطهير النفس والعناد. تقترب أفكار فانون عن العنف ممّا طرحه جورج سوريل في كتابه أضواء على العنف حتى أن فانون كان يقيم ولادة قيصرية على إثرها تمزق أفريقيا العلاقات القائمة بينها وبين أوروبا، وأن تحطم القيم والمفاهيم الأوروبية. وكان ينشد تشكيل حزب ثوري واحد أصيل تكون قاعدته الأساسية من الفلاحين. بل يرى أن العنف هو شكل من أشكال بعث الحياة اجتماعيًّا وخُلُقيًّا في الشعوب المغلوبة على أمرها. ولا ينسى بأن يشير إلى الجانب الإيجابي للثورة، حيث تغيّرت النظرة إلى الأمور، فلم يعد الراديو صوت الثقافة الاستعمارية، وإنما صار أداة بثّ أخبار الثورة، كما أن المرأة تحررت، وخرجت من البيت للجهاد، وصار بمقدورها أن تسافر بمفردها. ويشير المؤلف إلى دور فانون في دعم القارة الأفريقية، ويسهب في تتبع رحلاته داخل القارة، على نحو رحلته إلى أكرا، وباماكو، لدرجة أنه تكهن بما يحدث في العالم العربي والأفريقي، حيث يقول “كلما اشتدت وطأة دكتاتورية الحزب الواحد وكلما ازدادت المعارضة الجماهيرية قوة، يصبح الجيش بقيادة مجموعة من الضباط ذوي الروح المتعالية هو الحكم والفيصل بين الجانبين”. ولأن فانون كان يدرك أن بلسم الاستقلال لن يحلَّ جميع المشكلات الأفريقية، لذا ناشد ودعا إلى فكرة الوحدة الأفريقية، ثمَّ سرح بخياله ونادى بوحدة العالم الثالث كله، الذي هو صنيعة أوروبا التي يحملها كل ما حاق به. فكل ما تنعم به أوروبا من الرفاهية هو فضيحة مخزية؛ لأنه مستمد في الأصل من الثروة التي جمعت من عرق العبيد، ونُهبت من ثمار ومنتجات أرض السكان الأصليين للمستعمرات.

مشاركة :