الشيخة مي: تدهور البيوت التاريخية حصيلة الإهمالِ لا قدم المعمار.. والهدم ليس حلابنسجٍ جماليّ، ووعيٍ بمكوّنات المدينة التي تجسّد إرث هويّة إنسانيّة وعمرانيّة، تواصلُ هيئة البحرين للثّقافةِ والآثار رهانها على المنامة التّاريخيّة وأصالةِ تكوينها، وذلكَ في سبيلِ استعادةِ الذّاكرةِ الإنسانيّةِ الجمعيّةِ، واستثمارِ مكوّنات الهويّةِ وملامح المكان التّاريخيّةِ. وتسعى الثّقافةُ لتحقيقِ ذلكَ عبر العديدِ من التّطلّعات والمشاريع، التي تستهدفُ تعميق البنى التّحتيّة الثّقافيّة في المنطقةِ، كما تكرّسُ أدواتها الحفاظيّة من أجلِ الاعتناءِ بملامحِ المكانِ ومعالمه، واستردادِ الممارسات الإنسانيّة النّوعيّة التي تمثّلُ خارطة روحٍ للمدينةِ.وفي سياقِ هذه المساعي، أكّدت الشّيخة مي بنت محمّد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثّقافةِ والآثار: «أن ندقّق الحلمَ والبصرَ في خارطةِ المنامةِ، يعني أن نتعمّقَ في الجماليّة المعماريّة والتّاريخيّة التي تنفردُ بها. نحنُ أمام مدينةٍ كانت ميناءً مفتوحًا للعالمِ، وأثرُ الحضارات الإنسانيّة التي جاءت للمنطقةِ، وذاكرةُ التّعدّد العرقيّ والإثنيّ التي احتضنتها هذه المدينة، قد انسجَمَت جميعها بتوليفةٍ فريدةٍ من التّفاصيل الدّقيقة والملامح المعماريّة العريقة ضمن تكوينٍ لنسيجٍ عفويّ وحضريّ، يمكّن هذه المدينة أن تكون على خارطةِ العالم مجدّدًا»، وأشارت: «ما نقومُ بهِ في الثّقافةِ هو ما يكرّسُ لحفظِ الهويّةِ. المعمارُ الذي ينسجُ بملامحه هو تعبيرٌ أصيلٌ عن الحِقَب التّاريخيّة التي نمَت فيها هذه المدينة ومنَحَت لوطننا الحبيب أصالته، كما شكّلت تاريخيًّا نواةَ التّغيير في منطقةِ الخليجِ العربيّ، وملتقى إنسانيًّا للعديد من الثّقافات والشّعوب»، مبيّنةً: «كي تحفظَ مدينةً، لا بدّ أن تحفظَ تفاصيل وجودها وامتدادها. الثّقافةُ اليوم تمارسُ لاستعادةِ إرثِ المدينةِ وإعادة استثماره، ومن المهمّ أن نعي أنّ معول الهدم الذي يمحو ملمحًا معماريًّا ما، هو بمثابةِ محوٍ للتّاريخِ واقتلاع مؤلمٍ للهويّةِ». وأردَفت: «من المؤسف أن يتمّ تجاوز هذا المعمار وأن يُلوّحَ بفكرةِ الهدمِ من حينٍ إلى آخر، بينما القراءة المتأنّية لخارطةِ المدينةِ تؤكّد أنّ استبدالَ التّاريخ ومحو العمران الثّقافيّ والإنسانيّ هو إساءةٌ وتشويهٌ لحضارة هذا البلد. الهدم ليس حلّاً، بل هو مجرّد وهم نخترعه لإزاحةِ الحقيقةِ، الحقيقة التي تقول إنّ تداعي العديد من البيوت التّاريخيّة ليس بسببِ المعمارِ نفسه، وإنّما بسبب غياب المسؤوليّة أمام هذا العمران. وكما أكرّر ليس هنالك بيوت آيلة للسّقوط، وإنّما بيوتٌ تخلّى عنها أبناؤها. ما يحدثُ اليوم هو نتيجة لهذا التّخلّي وغياب الاهتمام الحقيقيّ. إنّ المسؤوليّة الاجتماعيّة هي خطّ الدّفاع الأوّل عن البيوت. والبيوت كما البشر لا شيء يهزمها سوى الإهمال والممارسات التي لا تليق بها. الحلّ ليسَ الهدم والاستبدال، وإنّما أن نؤمن جميعًا بالمسؤوليّة، وأن نكرّسَ المساعي من أجلِ استثمارِ هذه الهويّة الاستثنائيّة».ومن أجلِ المنامة التّاريخيّة، كرّست هيئة البحرين للثّقافةِ والآثار كافّة المساعي والاشتغالات لإعادةِ ميناء العالمِ إلى الخارطةِ مجدّدًا، وذلك عبر استثمارِ المكوّنات التّاريخيّة والحضاريّة التي تحتضنها المدينة، إذ تمكّنت الثّقافة بمساندة المركز الإقليميّ العربيّ للتّراث العالميّ من إدراجِ المنامة على القائمة التّمهيديّة للتّراث الإنسانيّ العالميّ في عام 2018م، فيما يعكفُ حاليًّا فريقٌ من الخبراء والاستشاريّين لإعداد إدراج المنامة التّاريخيّة على قائمة التّراث الإنسانيّ العالميّ لليونيسكو، وذلك تحت إشراف الخبيرة واستشاريّة التّراث العالميّ الدّكتورة بريتا رودولف. وقد أوضحت الشّيخة مي بنت محمّد آل خليفة: «كلّ مكوّنٍ معماريّ وكلّ ذاكرةٍ في المنامةِ التّاريخيّة هي سندٌ حقيقيّ لهذا الحلم، فنحنُ أمام مدينةِ التّنوّع الثّقافيّ والدّينيّ والإثنيّ والإنسانيّ. والمنامة نموذجٌ عالميٌّ لمدينةٍ حيّةٍ صنَعَت بمضمونها تاريخًا وطنيًّا وتجربةً معيشيّة استثنائيّةً يمكننا أن نراهنَ عليها أمام العالمِ كلّه».من جهةٍ أخرى، وبالتّعاون مع الخبير العالميّ تشارلز لاندري، يقوم فريق العمل الهندسيّ بدراسة المنامة التّاريخيّة واستقراء سياقاتها التّاريخيّة والإنسانيّة، وذلك لإعداد ملفّ تأهيلها كإحدى مدن الإبداع في العالم على قائمة اليونيسكو، تمامًا على غرار ما تمّ إنجازه في العام الماضي لمدينة المحرّق العريقة التي أُدرِجَت كمدينةٍ مبدعةٍ عن فئة التّصميم. وتسعى هذه الاستراتيجيّة إلى استعادة دورِ المنامة كمدينةٍ إنتاجيّة عوضًا عن أن تكون استهلاكيّة، وذلك بتعزيز الصّناعات الثّقافيّة في واحدٍ أو أكثر من الفئات التّالية: الحِرَف والفنون الشّعبيّة، التّصميم، صناعة الأفلام، فنّ الطّبخ، الأدب، الموسيقى والفنون الإعلاميّة، الأمر الذي يحقّق مردودات ثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة. وحول ذلك، أشار فريق العمل الهندسيّ إلى أنّ السّعي إلى إدراج المنامة كإحدى مدن الإبداع على مستوى العالم يجيء في سياقِ تعزيز الإنتاجيّة بما يتّسق مع الهدف الثّاني عشر من أهدافِ التّنمية المستدامة، كما سيُسهمُ ذلكَ في التّرويج عالميًّا للصّناعات الإبداعيّة وتعزيز المشاركة في الحياة الثّقافيّة، وبالتّالي إدماج الثّقافة كإحدى سياسات التّنمية الحضريّة المُستَدامة. وتجسّد هذه الاستراتيجية خطوة أولى للاندماج في أحد أكبر التّوجّهات الاقتصاديّة على مستوى العالم، وخصوصًا أنّ إحدى الجامعات الفرنسيّة قد كشفت عن تراجع مثلِ هذه الصّناعات في العالم العربيّ، في الوقتِ الذي استقطبت فيه على صعيد بقيّة دول العالم ما يزيد على 2.25 تريليون دولار، ويندمجُ فيها أكثر من 29 مليون شخصٍ، بمساهمةٍ من الأفراد دون سنّ الثّلاثين تصل إلى 19.1%، وهو ما يمنحُ رؤى واعدةً لتغيير طبيعةِ المعطيات الثّقافيّة الاقتصاديّة. ووفقًا للدّراسةِ المبدئيّة التي عكف عليها فريق العمل، فقد تمّ تحديد العديد من المواطن الإبداعيّة والإنتاجيّة بقلبِ المنامةِ التّاريخيّة، والتي ستشكّل بيئات استثماريّة نوعيّة جاذبة لفردِ المشاريع والتّطلّعات.ومن الجدير بالذّكر أنّ رهان الثّقافة على المنامة التّاريخيّة قد حقّق العديد من المنجزات، إذ اختيرت عاصمةً للثّقافةِ العربيّةِ في عام 2012م، تبعها اختيارها عاصمةً للسّياحةِ العربيّةِ في العالمِ الذي يليه، ومن ثمّ عاصمةً للسّياحةِ الآسيويّة في عام 2014م. كما أطلَقَت هيئة البحرين للثّقافةِ والآثار مشروعها (الهند الصّغيرةِ) ما بين عامي 2015م و2016م والذي جسّد اعترافًا ثقافيًّا بالمكوّنات الإنسانيّة والحضاريّة العريقة التي تحتضنها المدينةِ.
مشاركة :