مع رحيل الشاعر ثاني السويدي يخفت ضوء آخر في الفضاء الثقافي المحلّي، ضوء ظلّ ساطعاً ومتوهجاً في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.. رحيل يؤكد مضامين وأبعاد عنوان أول دواوين ثاني السويدي الشعرية وهو«ليجفّ ريق البحر» 1994، والذي بشّر بصوته المختلف، الخاص جداً، والمتمرد والمشاكس والحادّ الذي كان يقطع المسافة الكثيفة بين المتخيّل والواقعي، وبين ما هو جامح وما هو مهادن، متكئاً على البصيرة المخترقة لقصيدة النثر في أفقها المحلّي الناشئ، وفي مداها العربي والعالمي. حاول السويدي حينها خلق صيغة للكتابة تجعل من السرد أرضاً تحتمل المخاضات المقلقة والشرسة للقصيدة الحديثة الفائضة بالبروق والرؤى الضارية، فكتب روايته «الديزل» بكل عنفوان السرد وجسارة الشعر، مجتازاً (التابو الاجتماعي)، ومرتحلاً بنصّه وسط حقول الألغام الافتراضية، وكانت كتابة أشبه بالحراثة في السديم، وهي كتابة توضحّت ملامحها بقوة في ديوانه الشعري التالي: «الأشياء تمرّ» في عام 2000، مشكلاً بذلك خطّاً إبداعياً فائراً بالأسئلة والتأملات والمراجعات المؤلمة نوعاً ما للمحيط الإنساني، والحيرة الوجودية، حيث ساهمت الطفرة الاجتماعية وزمن التحولات الجديدة في ظهور مجموعة من شعراء قصيدة النثر الإماراتيين، والتي كان ثاني السويدي أحد الأسماء اللامعة واللافتة ضمن نسيجها الإبداعي المستقلّ. ولد ثاني السويدي بمنطقة المعيريض برأس الخيمة في عام 1966، وشكّلت البيئة الثقافية والاجتماعية التي ترعرع وسطها منطلقاً للتكوين الثقافي والجمالي الذي تأصّل في دواخله، وكان له دور مهم بعد ذلك في ترجمة رؤاه الشخصية وانطباعاته الذاتية إلى نصوص لصيقة بروح المكان، والنظر إلى هذا المكان بالذات من منصة التأمل والمعاينة والنبش والتحليل، ومن خلال لغة جريئة وعفوية وحارقة، وكانت رواية الديزل هي أكثر أعماله انحيازاً لهذا الجانب التفكيكي لزمن ما قبل النفط، وما بعده أيضاً، ووصف السويدي نفسه الرواية في إحدى حواراته بأنها تدور حول أثر تنامي النفط على المجتمعات الصغيرة الموزعة بين ثقافتين. غياب ثاني السويدي هو غياب آخر موجع بعد الغيابات الفادحة لكل من جمعة الفيروز، وأحمد راشد ثاني، وناصر جبران، ومريم جمعة فرج، وحبيب الصايغ، وغيرهم من المبدعين الذين أسسوا للكتابة النوعية والأسلوب الزاهي والمتفرّد، في زمن يشهد تراجعات كبيرة وتحولات مقلقة على أكثر من صعيد وجهة. غاب عنا السويدي بكامل أناقته الشعرية وسط المسيرة الشائكة للوداعات والغيابات الصادمة، لكن «لن يجفّ ريق الإبداع الذي تركه لنا».
مشاركة :