الوساوس المتسلطة والأفعال القسرية الحلقة الخامسة د. ضيف الله مهدي وسواس الجنون ( قديما ) : كان المسلمون الأوائل ينسبون الوسواس إلى فعل الشيطان ؛ لأنهم عرفوا ووصفوا نوعين من الوساوس موجودين في القرآن الكريم وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وهما وساوس النفس ، ووساوس الشيطان ، وأما ما عدا ذلك من الأعراض التي تدخل ضمن اضطراب الوسواس القهري اليوم فقد كانوا يعتبرونها نوعا من أنواع الجنون ، وليسوا وحدهم ، فقد أرجعه الكثير من الغربيين حتى عهد قريب إلى أنه كذلك . والصحيح عند الطبيب النفسي المسلم اليوم هو أن ما لا يزول بالاستعاذة ليس من الشيطان ، وما لا يزول بتقوية الصلة بالله والإكثار من الطاعات ليس وسواس النفس ، وإنما هو وسواس قهري . ومما يؤلم المصابين بالوسواس القهري ما يقرؤونه في كتب بعض العلماء عن ذم الوسوسة والموسوسين ، لأنهم كانوا يطلقون ذلك الوصف على جميع أنواع الوسواس دون تخصيص، فهو وصف عام يتأكد عندهم في النوع الثالث ـ حسب تصنيفنا ـ أكثر من سواه . ولم يكونوا أيضا يرون أن هناك وسواسا مرضيا كما يراه الأطباء في العصر الحديث ؛ ولذلك يتألم مريض الوسواس القهري جدا حينما يقرأ للإمام ابن القيم رحمه الله قوله : ” فإن قال (أي الموسوس): هذا مرض بليت به ، قلنا: نعم، سببه قبولك من الشيطان ، ولم يعذر الله أحدا بذلك ، ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أخرجا من الجنة ، ونودي عليهما بما سمعت ، وهما أقرب إلى العذر لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به ، وأنت قد سمعت وحذرك الله من فتنته وبيَّن لك عداوته وأوضح لك الطريق؟! فما لك عذر ولا حجة في ترك السنة والقبول من الشيطان ” . ولعله يلاحظ أن الإمام ابن القيم قد جمع في مقولته بين النوع الأول وهو ما حدث لأبينا آدم وأمنا حواء ، وبين النوع الثالث وهو حال مرضى الوسواس القهري ، وناقش النوعين على أنهما نوع واحد إن صح ابتداء تصنيفنا للوسواس إلى تلك الأنواع الثلاثة . ومما يؤلم الموسوسين أيضا اجتهاد بعض طلبة العلم بالاستشهاد بالأحاديث التي تنهي عن التنطع والغلو في الدين في حق الموسوسين مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ، فإن قوما شددوا على أنفسهم فتشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) . ولو وقفنا مع كلمة واحدة من هذا الحديث ( لا تشددوا) لربما بان لنا الفرق بين التشدد والوسواس القهري ؛ فالتشدد : هو الغلو والتنطع في الدين النابع من ذات الفرد وبإرادته وتقربا منه إلى الله ، بل إنه قد يستنقص غيره ممن لا يفعلون فعله ، أما الموسوس فأمره مختلف تماما ، فهو يشكو لكل أحد من وسواسه ، ويتألم منه ، ويستفتي العلماء في حاله، ويتردد على الأطباء ، ويدعو الله أن يخلصه منها ، ويقاومها فيفرح أشد الفرح إذا تغلب على الوسواس ويحزن أشد الحزن إذا غلبه الوسواس . وعلى الرغم من كل ما ذكرناه من الدلائل التي تدعم عدم علاقة الشيطان بالوسواس القهري ، فإننا لا يمكن أن نقطع بذلك ـ رغم غلبة الظن ـ وذلك لأننا نبحث في أمور غيبية نؤمن بمجمل تأثيرها لكن لم ينقل لنا طبيعة وخصوصية ذلك التأثير ، وإن قلب الطبيب النفسي المسلم ليتألم حينما يرى بعضا من بني أمته يصارع مرض الوسواس القهري لسنوات عديدة ويرفض زيارة الطبيب النفسي إما لقناعته بعدم فائدة العلاج النفسي في علاج علته ، أو بسبب النظرة الاجتماعية السلبية تجاه الطب النفسي . نستنتج مما سبق أن الحكم الشرعي لمرض الوسواس القهري ، إنما يجيء اليوم بالقياس كقاعدة فقهية نلجأ إليها عندما يجدّ على أفهامنا كمسلمين شيء لم يكن مفهوما أيام رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، والقياس هنا معروف وواضح، فليس على المريض حرج، والله سبحانه وتعال يحاسبنا على ما نفعله بإرادتنا ، ولعلّ من المهم هنا أن أذكر لك ما وجدته في كتب السيرة ، فقد ذكرت لنا كتب السيرة شيئا مشابها لما نعرفه الآن بالاجترار الوسواسي المتعلق بالأمور الدينية ؛ فقد روي أن أحد الصحابة قال للرسول صلى الله عليه وسلم : إني لأجد في صدري ما تكاد أن تنشق له الأرض ، وتخر له الجبال هدّا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أوجدتموه في قلوبكم ، ذلك صريح الإيمان ) ، ثم قال : ( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ) . وفي حديث آخر ، قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( إن الشيطان ليأتي أحدكم فيقول له : من خلق الشمس؟ فيقول : الله ، فمن خلق القمر؟ فيقول: الله ، فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليقل : آمنت بالله ورسوله ) . وذلك حتى يقطع الإنسان هذه الوساوس . ومع ذلك فإذا لم تكن هذه الأفكار نوعا من الوسواس وعبارة عن عارض وشبهة قوية تحتاج إلى إجابة ، فعذر ذلك ينبغي أن يتعلم الإنسان من أمور العقيدة ما يدفع هذه الشبهة. ويقول الدكتور طارق الحبيب : ” يرى الكثير من الأطباء النفسانيين أنه لا علاقة للشيطان بمرض الوسواس القهري ، في حين يرى الكثير من طلبة العلم الشرعي أن الشيطان هو مصدر جميع أنواع الوسواس . ولعله لتوضيح مصدر اللبس في شأن مرض الوسواس القهري أن نصنف الوساوس بشكل عام إلى ثلاثة أنواع : 1ـ النوع الأول ـ تلك الوساوس التي تدعـو الإنسان عادة أن ينظر أو يستمع أو يفعل أمراً محرماً . ويعد هذا النوع من الوساوس من طبيعة النفس البشرية ( أي ليس مرضاً ) ، ويعتري كل أحد من بني آدم . وتختلف هذه الوساوس عن غيرها من الوساوس – كما سنرى لاحقاً – بأنها تدعو الإنسان إلى محبوبات النفس المحرمة شرعاً. كما أنه إذا لبى الإنسان بشيء من جوارحه نداء هذا النوع من الوساوس فإنه قد عرض نفسه للحساب والجزاء من رب العالمين ، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” عُفي عن أمتي ما حدّثت به نفوسها ما لم تتكلم به أو تعمل به. وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال : ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إن الله تعالى يقول للحفظة إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فاكتبوها …” ويُعد مصدر هذا النوع من الوساوس عادة أحد ثلاثة أمور : 1ـ النفس : وهي النفس الأمارة بالسوء . قال تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) . 2ـ شياطين الجن : ودليل ذلك قوله تعالى : ( من شر الوسواس الخناس ) . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره لسورة الناس : وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة برب الناس وملكهم وإلههم من الشيطان الذي هو أصل الشرور كلها ومادتها الذي من فتنته وشره أنه يوسوس في صدور الناس فيحسن لهم الشر ، ويريهم إياه في صورة غير صورته . وهو دائماً بهذه الحال يوسوس ثم يخنس ، أي يتأخر عن الوسوسة إذا ذكر العبد ربه واستعان به على دفعه . 3ـ شياطين الإنس : ودليل ذلك قوله تعالى : ( من الجنة والناس ) . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره : والوسواس كما يكون من الجن يكون من الإنس ولهذا قال : ( من الجنة والناس ). 2ـ النوع الثانـي ـ تلك الوساوس العابرة ( غير المرضية ) التي تعرض للإنسان في صلاته وطهارته وعبادته ومعتقداته ، وكذلك في شؤون حياته الدنيوية . وهذا النوع من الوساوس يلهي العبد عن عبادته فينسى كم ركعة صلى ؟ أو هل غسل ذلك العضو من جسمه ؟ وغير ذلك من الوساوس في أمور الدين والدنيا . دليله ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبي العاص – رضى الله عنه – قال : قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي لُبِّسها علي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ذاك شيطان يقال له خِنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً ” ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى عني . وكما يعتري هذا النوع من الوساوس الإنسان في أمور دينه فإنه يصيبه أيضاً في أمور دنياه لأن الشيطان عدو للمسلم في شأنه كله 0 وقد يزول هذا النوع من الوساوس عند الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، كما قد تخف شدته أحياناً بالتركيز أكثر في ذا العبادة . ولذلك فإن الإنسان يؤجر من صلاته ما عقل منها لأن بيده مقاومة هذا النوع من الوساوس مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم . ويختلف هذا النوع من الوساوس عن النوع الأول في أنه قد يزول بإذن الله عند الاستعاذة من الشيطان الرجيم ، في حين أن النوع الأول قد لا يزول عند الاستعاذة لأن مصدره ليس مقصوراً على الشيطان الرجيم وإنما النفس وكذلك شياطين الإنس . ومما يدعـم إمكانية زوال هذا النوع من الوساوس بالتركيز في ذات العبادة ما ذكره أبو حامد الغزالي – رحمه الله – ” ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان فيه من قبل ، ولكن كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان ، وذكر الله هو الذي يؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال ” . 3ـ النوع الثالـث ـ الوساوس القهرية المرضية ( مرض الوسواس القهري ) ، وهي علة مرضية تصيب بعض الناس كما تصيبهم أية أمراض أخرى . وهي أفكار أو حركات أو خواطر أو نزعات متكررة ذات طابع بغيض يرفضها الفرد عادة ويسعى في مقاومتها ، كما يدرك أيضاً بأنها خاطئة ولا معنى لها ، لكن هناك ما يدفعه إليها دفعاً ويفشل في أغلب الأحيان في مقاومتها .
مشاركة :