د. رأفت محمود يكتب: غراب يقلد مشية الطاووس

  • 7/9/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

كم كان عبقريًا ذلك العلامة الفذ جمال حمدان عندما طرح كتابه استراتيجيات الاستعماروالتحرير، كتاب يحكى تاريخ الاستعمار واساليبه وكيف يغير جلده ويداهن الأمم والشعوب حتى يحتلها ويستعبد شعوبها.فالأوطان كالأبدان دائما تلفظ الغريب عنها، وإذا فرض عليها تقاومه ليصبح منبوذ وغريب فإذا لم يرحل بالحسنى فيتم بتره من الجسد، لأنه في النهاية وبمضي الوقت تستنهض الهمم وتضعف قوة المستعمر، وعدالة القضية تفرض نفسها ويرحل المستعمر غير مأسوف عليه، ويبقى الجرح غائرا في جسد الأمة ذكرى تدرسها الأجيال، لتأخذ العبرة حتى لا يتم استعبادها واحتلال أراضيها مرة أخرى.وقد جرت خلال العقود الماضية محاولات مضنية لإعادة تشكيل وعى شعوب دول المنطقة لقبول الاستعمار بشكله الجديد، فلم يعد ممكنا استمرار الاستعمار بشكله التقليدي القائم على احتلال قطعة ارض أو اوطان بقوة السلاح وفرض القوة الغاشمة على الأخرين، لأن معايير الزمن الحالي قد اختلفت وعصر بناء الإمبراطوريات بقوة السلاح انتهى إلا في حالات لا يمكن اعتبارها قاعدة، وجرى تمهيد وشرعنه لها من قبل المؤسسات الدولية وتمثل ذلك فيما تم في العراق وافغانستان ودول أخرى، وإن كان سلوك هذه الدول أعطى المبرر لذلك الغطاء الدولي.الأكثر خبثًا كان استخدام الدين لاحتلال الدول واستنزاف خيراتها، فالمنطقة تراوح مكانهابين صهيونية احتلت فلسطين بناء على أكاذيب تاريخية غُلفت بإطار ديني لتؤسس دولةتطالب بالاعتراف بأنها دولة يهودية، وتيار تقوده إيران يستخدم المذهب الشيعيلإعادة امجاد الدولة الفارسية، وتيار تقوده تركيا يحاول إحياء من دُفن تحت الترابغير مأسوف عليه وعودة أمجاد عدوانها واستعمارها للآخرين.وفى صراعنا الحالي مع الدولة التركية فإنه صراع وتنافس يتجدد كل فترة فهو لا ينحصر بين دولتين بقدر ما يمثلانه من رؤية لشكل المنطقة ومستقبلها وهنا تتقاطع مصر ليس معتركيا فقط بل مع إيران وإسرائيل وما ورائهم من قوى دولية وبالنسبة لتركيا فهي دولةعلى النقيض من مصر في كل شيء كما أفاض العلامة جمال حمدان في وصفها وقال: "ليس أكثر من تركيا نقيضا تاريخيا وحضاريا لمصر، هي بلا تاريخ، بلا جذور جغرافية، وبلا حضارة، بل كانت طفيلة حضارية استعارت حتى كتابتها من العرب، ولكن أهم من ذلك تمثل قمة الضياع الحضاري والجغرافي، غيرت جلدها أكثر من مرة، الشكل العربي استعارته ثم بدلته باللاتيني، والمظهر الحضاري الآسيوي نبذته وادعت الوجهة الأوروبية، ولعلها بين الدول كما مثل الدولة التي تذكر بالغراب يقلد مشية الطاووس".إنها دولة تحقد على مصر منذ نشأتها منذ عدة قرون، لذلك فأن هذه الدولة الفاقدة للهوية الحضارية أوجدت هوية تحاول من خلالها استعمارنا بها واوجدت لنفسها فصيل متأمر يحارب مكانها ويتكلم بلسانها، كما تفعل إيران مع التيار الشيعي في المنطقة والذي توظفه كحصان طروادة لبسط نفوذها وسيطرتها.فتركيا تاريخها كله قائم على التحايل والمداهنة، لذلك فإن هذه الدولة بدون هذه الهويةالتي غلفت بها تحركاتها لن تجد ما تقدمه، لذا كانت مصر بالنسبة لهذه الدولة بمشروعالدولة الوطنية والهوية المصرية الراسخة في الجذور والرصيد الحضاري هي النقيض لها.فالدفاع المستميت عن جماعة الأخوان المسلمين واستضافتهم لم يكن سوى حصان طروادة التركي لعودتها مرة أخرى إلى المنطقة من خلال جماعة تدين بالولاء لذلك المستعمر وتسبح بحمده وتسلمه أمرها وأرضها وعرضها، كما تحاول تركيا ترويجه بوجودها في ظل شرعية مصطنعة لتستولي على الدولة الليبية، وحاولت مع إطار ما عرف بالربيع العربي حتى شعرت أن الشرق قد دان لها وبات إحياء السلطنة أمام الأعين تراه وجاء وقت الحصاد لاستثمار  ما تم في تشكيل هوية المنطقةطوال العقود الماضية ولكنه فجأة أصبح سراب بعد هبة الشعب المصري في 30 يونيو 2013.فتشكيل الوعي للقبول بالمستعمر أيًا كانت صفته مهمة تحتاج إلى الاستثمار فيها عقود من الزمن حتى نجد أنفسنا أمام ما نراه الأن من الأبدان التي تتحرك بين الدول لتحاربمن أجل مستعمر ولا غرابة من تواجدهم جميعا في معيته وحمايته ليوظفهم في خدمته، كما نراهم في ادلب السورية أو طرابلس الليبية أو حنى في القنوات التي تبث من تركيالتنهش في الجسد المصري وهم ينعمون بنسيم الأناضول.ولعل ما قامت به قناة الجزيرة منذ إنشائها بمحاولة إعادة تشكيل الوجدان العربيوالإسلامي وصولا للحظة التي نحياها الآن والتي كُشفت فيها عورات الجميع وتجمعتقطعان الذئاب للترويج للسلطنة وتمجيد أدوار دول وتعظيم شخصيات تاريخية دون أخرى وإبراز احداث وتلوين الحقائق.مثل ما تقوم به السينما الأمريكية في تقديم الشخصية الأمريكية التي تهب دائمًا لإنقاذالعالم من شرور رجال على الأرض أو حتى من الفضاء، أو حتى الانجليزية في نسختها الخاصة المتعلقة بالبطل السينمائي الذي تمثله شخصية جيمس بوند تلك الشخصية التي تجذب إليها كل أنواع النساء ويخرج من كافة المعارك منتصرًا، وكلها نماذج صنعت على الورق، فكلها صراع على الوعي والهوية.وقد شاهدنا النسخة التركية من تغيب الوعي وتشويه الهوية والتي أفاضت في البداية في رسائل تم صناعتها بمهارة لتحقيق أهداف سياسية مثل مسلسلات تبين جمال وتقدم تلك الدولة ثم بدأت تتحدث عن تاريخها بمسلسلات درامية مخالفة للواقع في كثير من أحداثها وصرف عليها بسخاء، وصنعت بمهارة من نوعية قيامة أرطغل وعثمان المؤسس في حلقات تعدت المئات!، وهي في الحقيقة وبالمقارنة بالأرت الحضاري المصري مثلًا لا تساوى شيء يذكر أمام مجد وعراقة وتاريخ الأمة المصرية.فهي مقارنة لن تكون في صالحها بأي حال من الأحوال لذا تواكب مع محاولاتها تقديم نفسها للعالم العربي لاستعماره مرة أخرى تهميش وتضليل للتاريخ النضالي العربي عمومًاوالمصري خاصة، وعندما مثلًا تم تقديم مسلسل مثل مسلسل طومان باى يحكى بواقعية عن مقاومة الغزو العثماني للمشرق العربي والدسائس والحيل التي استخدمت، وجدنا الأجهزة الرسمية التركية تتدخل وتتكلم.ولعل الحالة المعنوية التي أطلقها عرض مسلسل الاختيار والتي تعدت الحالة الدرامية التي يقوم عليها من سرد حياة بطل من أبطال هذا الوطن وهم كُثر إلى رحاب أخرى حول الصراع الدائر بين الخير والشر بين الحرية والاستعباد، صراع الهوية التي حاول وتحاول جماعة من دمنا ولحمنا جرنا إليها لنكون أداة، مجرد أداة في يد أخرى تحركها كعرائس الماريوت، لذلك كانت 30 يونيو وما جرى قبلها وبعدها هو صراع على تلك الهوية.لذا لم يكن السوري الذي ترك الجولان المحتل وشمال بلاده الذي ترتع فيه قوات من دولعديدة على رأسها تركيا يحارب بسعادة غامرة في ليبيا ويتوعد الجيش المصري أو حتى المصري المتواجد أمام فضائيات تبث من تركيا يهاجم دولته بكل ضراوة بالأمر المستغرب، لأنه نتاج الاستثمار في الوعي وتشكيل الهوية للتوافق مع أهداف المستعمر.وفى المجمل تفكر الأمم في سبب هزيمتها وضعفها أمام الآخر وأخطر أنواع الاستعمار ذلك الآتي من أمم استعمارية عندها نقص في كل شيء لأنهم في الأصل قطاع طرق ويعيشون كقطاع طرق ودولة منهجها هو الاستيلاء والسطو ولم يخطئ جمال حمدان في وصفها بأنها طفيلة حضارية وتمثل قمة الضياع الحضاري والجغرافي، وإنها بين الدول مثل الدولة التي تذكر بالغراب الذي يقلد مشية الطاووس.

مشاركة :