بيروت – كشفت تفاصيل المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي التي توقفت عمليا عدم وجود رغبة لدى حكام لبنان في الإصلاح والاكتفاء بانتهاج سياسة الخداع والتسوّل التي أجهضت مؤخرا المحادثات بين الطرفين. وقال مصدر لبناني مطلع على تفاصيل المفاوضات، إن ممثلي الصندوق لم يلمسوا جدية من الوفد اللبناني، مضيفا أن ما أثبتته المفاوضات أن لا أحد في لبنان يريد الإصلاح وأن كل جهة سياسية تصارع من أجل مصالحها الضيقة والخاصة على حساب مصالح البلد. ويصنف المراقبون طريقة التفاوض التي انتهجها ساسة لبنان ارتكزت أساسا على التسول المعهود من الجهات المانحة، علاوة على تبني الخداع كخطة أعدمت ثقة الصندوق في قادة البلد. واعتبر مفاوض لبناني أن “اللوبي الذي يبدي استعدادا لأن يحترق البلد لئلا يُكشف ما قام به من ارتكابات، قوي جدا ومؤثر”. وقال مصدر آخر “على الطبقة السياسية أن تفهم أن زمن التسوّل انتهى ولم تعد تنطلي على أحد الوعود الكاذبة بالإصلاح”. على الطرف الآخر، اعتبر مصدر غربي مطلع على مضمون المحادثات، أن جلسة التفاوض الأخيرة “سارت بشكل سيء للغاية وانتهت بطلب صندوق النقد من الوفد اللبناني التوقّف عن خداعنا”. وروى أن وزير المالية غازي وزني حاول احتواء التوتر بطلب الانتقال للبحث في نقطة أخرى، فأتاه الجواب “ليس هناك من نقطة تالية”. ولم يُحدّد أي موعد بعد لاجتماع التفاوض المقبل. من جهتها، حذّرت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليه الجمعة من أن الوضع في لبنان “يخرج بسرعة عن السيطرة”. وجاء في بيان لباشليه أن بعض اللبنانيين الأكثر ضعفا “يواجهون خطر الموت بسبب هذه الأزمة”، مضيفة “علينا التحرك فورا قبل فوات الأوان”. وفيما يحمل المحتجون في لبنان حكومة حسان دياب على الفشل في إدارة المفاوضات، فإن المصدر اللبناني المفاوض أشار إلى أن العائق الأكبر في البلد هو البرلمان، قائلا “البرلمان يتصرّف كما لو أنّه ممثل لمصالح القوى السياسية لا الشعب”. ويوجد إجماع داخلي وخارجي في لبنان على أن أكبر عقبة حالت دون إنقاذ البلد من أزمته الاقتصادية الخانقة تتمثل في حزب الله الذي لا يريد الدفع نحو أي إصلاحات للحفاظ على أنشطته الاقتصادية التي قد تتضرر في ظل وجود اتهامات للحزب ولعدد آخر من السياسيين بتقاضي رشاوى وعمولات على كل المشاريع العامة. وطالب الباحث حسين عبدالحسين في هذا الصدد اللبنانيين بإخراج حزب الله من بلادهم لإنقاذ اقتصادهم. وكتب عبدالحسين في موقع “سنديكيشن بيورو” للرأي المعني بتحليل أوضاع منطقة الشرق الأوسط، “لا يدرك الكثير من اللبنانيين أن أزمتهم الوطنية هي في واقع الأمر من صنع لبنان نفسه. ويلقي اللبنانيون، في الغالب، اللوم على الحظر الأميركي، وهو حصار غير موجود فعليا. إن هذا اللوم غير المناسب يعمي الدولة عن السبب الحقيقي لضائقتها الاقتصادية وهو حزب الله”. وأضاف “حتى دون العقوبات، فإن الاستثمار الأجنبي المباشر -الذي عادة ما يكون المحرك للنمو الاقتصادي- يفقد الثقة في لبنان. ويعزف المستثمرون الأجانب عن جلب أموالهم إلى بلد يعيش في حالة حرب دائمة، بالإضافة إلى تورط حزب الله في صراعات إقليمية في الوقت الحالي، في سوريا واليمن والعراق، أو تهديده بخوض حرب على إسرائيل”. واعتبر مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية ناصر ياسين من جهته أنه “لا توجد نية سياسية للإصلاح”، قائلا “يفضل الزعماء ألا يصار إلى إجراء إصلاحات جدية تحت ضغط صندوق النقد أو الدول المانحة أو ضغط الشارع، مقابل أن يبقى وضع البلد مترنحا من دون أن ينهار لضمان عدم خسارتهم كل شيء”. ووفق ياسين فإن ذهاب قادة البلد نحو تنفيذ الإصلاحات، يمثل “تجريدهم من الكثير من أدوات عملهم وسلطتهم واستحواذهم على الدولة والاقتصاد والمجتمع عبر شبكات تابعة لهم وعبر تغذية المحسوبيات والزبائنية”. وتضع كل هذه التطورات لبنان على حافة هاوية اقتصادية، ما جعل الخبراء يحذرون من الانحدار نحو الأسوأ في حال عدم الوصول إلى حل مع صندوق النقد الدولي. ويتخبّط لبنان في أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث، وخسر عشرات الآلاف من اللبنانيين وظائفهم أو جزءا من رواتبهم وتآكلت قدرتهم الشرائية، فيما ينضب احتياطي الدولار لاستيراد مواد حيوية مدعومة كالقمح والأدوية والوقود. وتخلّف لبنان في مارس وللمرة الأولى في تاريخه عن تسديد مستحقات سندات اليوروبوندز التي تبلغ قيمتها الإجمالية أكثر من ثلاثين مليار دولار. ثم طلب مساعدة صندوق النقد. وتفيد العديد من المصادر الغربية أنه في ظل تعثر المفاوضات لا يوجد لدى لبنان أي بديل آخر في ظل عدم ثقة الشركاء الخارجيين في وعود السلطات اللبنانية. ويطالب صندوق النقد لبنان بإصلاحات كثيرة منها تقليص النفقات العامة وتحسين الإيرادات الضريبية، وضبط الحدود وإصلاح المرافق العامة على رأسها قطاع الكهرباء الذي كبّد خزينة الدولة أكثر من 40 مليار دولار منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990). وسيحرم البلد بحسب العديد من المصادر من عدم استثمار أي من المانحين في لبنان في أزمة خانقة فاقمتها العملة غير المستقرة وغياب برنامج واضح مع صندوق النقد.
مشاركة :