جلبير سينويه يروي سيرة ابن رشد بإشكالاتها

  • 7/13/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

"ابن رشد أو كاتب الشيطان" هي الرواية السادسة عشرة للروائي الفرنسي جلبير سينويه التي تصدر عن "منشورات الجمل". وهي، كما يعلن عنوانها، تتمحور حول الفيلسوف العربي الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي (1126 – 1198)، وطرح الكثير من الأسئلة التي لا يزال صداها يترجّع حتى اليوم، وانقسم الناس فيه بين مؤيّد له ومتأثّرٍ به، من جهة، ومُعارضٍ له إلى حدّ إباحة دمه، من جهة ثانية. فابن رشد شخصية إشكالية في تاريخ الفكر العربي، تأثّر بسابقيه من أساطين الفلسفة اليونانية، وأثّر في معاصريه واللّاحقين به من أساطين الفكر الغربي. في العنوان، يشي الاسم المعطوف "كاتب الشيطان" بالتهمة المنسوبة إلى الاسم المعطوف عليه "ابن رشد". وفي المتن، وفي مناظرة في حضرة ابن سعيد قاضي قرطبة، يتوجّه أحد الحاضرين إلى ابن رشد بالقول: " أنت كاتب الشيطان" (ص 155). وبذلك، يتقاطع العنوان والمتن في شيطنة الفيلسوف، ووضعه موضع الاتّهام، وإصدار الحكم عليه بدون محاكمة. وهي ظاهرة طالما عانى منها الفكر، العربي والغربي، عبر التاريخ. ودفع ثمنها غالياً المفكّرون وأصحاب الرأي الآخر. يضع جلبير سينويه روايته في سلكين سرديّين اثنين، يتجاوران، ويتناوبان على الحضور ورقياًّ، غير أنّهما يتعاقبان زمنياًّ، فيشكّل الثاني امتداداً متقطّعاً للأوّل، ويتكاملان في تقديم حكاية الشخصية، فيقدّمها الأوّل في حياتها، على لسانها. ويقدّمها الثاني بعد موتها، من خلال الأثر الذي تركته، على لسان الراوي العليم، ما يجعلنا نستنتج أننا إزاء روايتين اثنتين فرعيّتين ضمن الرواية الواحدة الأصلية. وهما روايتان تفترقان في الفضاءات الزمنية والمكانية والشخوص، وتلتقيان في الشخصية التي تدوران حولها. يمتدّ السلك الأوّل على مدى اثنين وسبعين عاماً هي عمر ابن رشد، ويشغل عشرين فصلاً من مجموع فصول الرواية التسعة والعشرين. ويتبع مساراً خطّياًّ لا تنكسر خطيّته سوى مرّة واحدة، في الفصل الأوّل، الذي يبدأ من حيث تنتهي الأحداث، ويتقاطع مع الفصل الأخير ما يمنح المسار شكلاً دائرياًّ. وفي هذا السلك يقوم ابن رشد بفعل الروي، وحشد وقائع حياته بين الولادة والموت. وهي وقائع نستخرج منها مواصفات هذه الشخصية الإشكالية في تاريخ الفكر العربي. وقائع من حياته في الوقائع المروية: ولادتُهُ في قرطبة لأسرة توارثت القضاء أباً عن جد، تنوّعُ مصادر دراسته وتوزّعُها على الخط والفقه والحديث والكلام والفلسفة والطب والطبيعة والفلك، تتلمذُهُ على الطبيبين المشهورين ابن طفيل وابن زهر، ممارستُهُ حريّة التفكير، إعجابُهُ بالفلسفة اليونانية وشرحُهُ كتب أرسطو، تأويلُهُ النص الديني في ضوء الفلسفة والعلم، إعلاؤُهُ العقل على ما عداه، إبداؤُهُ آراء مخالفة لرأي الجمهور، تحفّظُهُ في التعبير أحياناً حرصاً على رأسه، اصطدامُهُ بالفقهاء، تعرّضُهُ للاعتداء من العامّة والنفي من الخاصّة، تقلّدُهُ القضاء في قرطبة وإشبيلية، ممارستُهُ الطب، تقرّبُهُ من بعض الخلفاء والولاة طوعاً أو اضطراراً، وضعُهُ الكثير من الكتب المهمّة، وموتُهُ في العام 1198. وهكذا، يُقدّم هذا السلك السردي شخصية مثيرة للجدل، تجمع بين كرم المحتد، وغنى النشأة، وحبّ الاطلاع، والانفتاح على الأفكار أياًّ كان مصدرها، وحرية التفكير، وجرأة التعبير، ودقّة الملاحظة، وصحّة الفتوى، وحسن التخلّص، والإخلاص للحقيقة دون مراعاة موجب التحفّظ أحياناً ما جعله يدفع ثمن هذا الإخلاص غالياً. كاتب.jpg الكتاب في ترجمته العربية (دار النشر) يمتدّ السلك الثاني على مدى مائتين وثمانية وثمانين عاماً، ويشغل تسعة فصول، من مجموع فصول الرواية. الفصل الأوّل في هذا السلك تجري أحداثه بعد اثني عشر عاماً من وفاة ابن رشد، والفصل الأخير منه تجري أحداثه بعد ما يزيد عن ثلاثمائة عام من وفاته. على أنّ فجوة زمنية تفصل بين الفصل والآخر ، قد تكون قصيرة لا تتعدّى الأيّام العشرة، كما هي الحال بين الفصلين الرابع عشر والثامن عشر، وقد تطول لتبلغ مائة وخمسين عاماً، كما هي الحال بين الفصلين الرابع والعشرين والثامن والعشرين. وهذه الفجوات التي تفصل بين الفصول التسعة المندرجة في السلك الثاني، تمعن فيه تقطيعاً، وتحيله إلى أرخبيلٍ من الجزر السردية التي لا يصل بينها سوى تمحورها حول شخصية واحدة، وما خلا ذلك، لكلّ فصل مكانه وزمانه وشخوصه المنفصلة عن سواه من الفصول. في السّلك الثاني، يعهد جلبير سينويه بمهمّة الروي إلى الراوي العليم، فيتناول ابن رشد بعد وفاته، ويروح يقتفي تأثيره المستمر فيمن بعده، سلباً أو إيجاباً. وإذا كانت المضايقات التي تعرّض لها الفيلسوف في حياته "إسلاميّة" المصدر، كما رأينا في السلك الأوّل، فإنّ المفارق أنّ المحاكمات التي يتعرّض لها بعد وفاته، بعشرات ومئات السنين، هي "مسيحية" المصدر، كما نرى في السلك الثاني. وهذه المضايقات والمحاكمات تتمّ جميعها باسم الدين. تهمة أرسطو على مدى حوالى ثلاثة قرون من وفاته، تستمرّ ارتدادات الزلزال الفكري الذي أحدثه ابن رشد بوضعه الشروحات على كتب أرسطو، وتُعقَد المحاكمات الظالمة التي تدين المتأثّرين بهذه الشروحات، بشكل أو بآخر. فبعد اثني عشر عاماً على غيابه، يحكم مجمع ديني في باريس بتحريم قراءة أرسطو وشروحاته، وبالحرق والسجن المؤبّد لعدد من رجال الدين. وبعد ثلاثين عاماً، يهتم الأمبراطور فريدريك الثاني بتعريف الغرب إلى المعارف العربية لا سيّما شروحات ابن رشد. وبعد اثنين وسبعين عاماً، يعتبره الأخ توما الأكويني مفسداً للفلسفة والدين بينما يراه الأخ بولس رجلاً ساعياً إلى الحقيقة. Gilbert_Sinoue.jpg الروائي الفرنسي المصري الأصل جيلبير سينويه (دار النشر) وبعد خمسين عاماً، يصبّ الفقيه الجاحظ في مسجد إشبيلية اللعنة على ابن رشد لقوله بِقِدَمِ العالم وردّه على الغزالي. وبعد ثمانية وسبعين عاماً يحرّم الأب إيتيان، خادم كنيسة باريس، الجدل الفلسفي بعد أن لمس تأثّر بعض مدرّسي الفن وبعض الرهبان الدومينيكان بأفكار ابن رشد. وفي السنة نفسها تنتقل عدوى التشهير به إلى لندن، فينضمّ كبير أساقفة كانتور بري إلى المشهّرين. وبعد مائة عام، يحشر الشاعر الإيطالي دانتي، صاحب "الكوميديا الإلهية"، ابن رشد مع علماء يونانيّين في فصل الجحيم من الكوميديا. وبعد مائة وخمسين عاماً، يطفو الحقد عليه في البندقية لتسلّل أفكاره إلى جامعة بادوفا، واستشعار خطره على النصرانية. وبعد ثلاثمائة عام، يدين مجمع لاتزان الخامس في إيطاليا الرشدية والمتأثرين بها. وهكذا، يطغى صوت الخصوم على صوت المؤيّدين، طيلة ثلاثة قرون، على مدى القارّة الأوروبية. ويُحدث الزلزال الرشدي ارتداداته المستمرة، في القرون الوسطى. ويكون على أوروبا أن تنتظر عصر النهضة لتكتشف الظلم الذي ألحقته بهذا الفيلسوف، ولتكفّر عن هذا الظلم. وعودٌ على بدء، يمكن إدراج رواية سينويه في إطار رواية الشخصية التي تجمع بين السيرة الذاتية في سلكها الأوّل، والسيرة الغيريّة في سلكها الثاني. وإذ يتكامل السلكان في تمحورهما حول الشخصية نفسها من منظورين روائيّين مختلفين، فإنهما يفترقان في البنية والفضاءات الروائية والشخوص. وفي حين يتبع الأوّل مساراً متّصلاً، يتبع الثاني مساراً متقطّعاً. غير أن الأحداث في المسارين تنحو منحىً أفقياًّ يفارق المنحى التصاعدي التقليدي للرواية. إلا أنّ أهمّية الرواية تنبع من أهمّية الشخصية التي ترصدها، ومن دورها في تحريك ركود الفكر الفلسفي في أوروبا في "عصر الظلمات" الأمر الذي يرخي بظلاله على عالمنا المعاصر.

مشاركة :