ثمانية قرون تفصلنا عن حياة أبو الوليد بن رشد ولا يزال ما كتبه مادة صالحة للتداول وإقامة النقاش والسجال حول ما جاء فيها من أفكار عقلانية، فمنذ أيام فقط كتب د. عبدالرشيد محمودي مقالاً بعنوان ابن رشد: السؤال المتجدد، وفيه يحاول البحث عن آثار للفيلسوف، لا تزال باقية في الثقافة الأوروبية، بعد أن حصره البعض في نطاق نظرية وحدة العقل، وما يترتب عليها من نتائج، تتعارض مع المسيحية. يؤكد د. محمودي أن الاهتمام بابن رشد شهد نشاطاً ملحوظاً في القرنين الماضي والحالي، فقد عقدت مقارنات بينه وبين فلاسفة محدثين، مثل سبينوزا، وكانط، وهوسيرل، وأجريت دراسات لتحديد ما قد يكون له من تأثير بالمعنى الدقيق للكلمة في فلاسفة العصر الحديث، وكل ذلك مفيد لحفظ تراثه من النسيان. ورغم أنه لا تزال هناك حلقات مفقودة في تلك السلسلة الممتدة من ابن رشد إلى الفلاسفة المحدثين، لكن يكفي كما يقول د. محمودي، أن ابن رشد كان حافزاً مبكراً وفعالاً على ظهور الثورة العلمية الفلسفية في القرن السابع عشر، وسبب ذلك أنه عندما أطلق شيطان العلم، بفضل شرحه الصارم على أرسطو، فرض على الفلاسفة الأوروبيين العمل على بحث العلاقة بين العلم والإيمان وصياغتها بطريقة أو بأخرى. وبعيداً عن الأفكار فإن البحث في سيرة ابن رشد عملية شاقة جداً، فهو صعب المنال، لأنه لم يخلف سيرة ذاتية أو فكرية، من شأنها أن تمدنا بمفاتيح لتعميق فهمنا لفيلسوف قرطبة ومراكش، وبالرغم من وجود نتف من سيرته في مصادر معروفة لمؤرخين، إلا أنها إجمالاً كما يقول د. بنسالم حميش في كتابه ابن رشد وشوق المعرفة لا تسعفنا في نيل ذلك المفتاح واستعماله. يعدد حميش العوائق الخاصة بمواقف ابن رشد ووجوه سيرته، التي تحول دون استثمار حياته روائياً، ومن تلك الوجوه اتصافه بقلة الحركة، إذ إنه لم يتعد مثلثه، متقارب الأضلاع: قرطبة، إشبيلية، مراكش، فهو لم يحج ولم يقم بسياحة أو سفارة خارج هذا المثلث، كما أنه لم يحضر معارك حربية، مثل معركة سنتريم مع جيش ألفونسو الثامن (1183) ميلادية، وأيضاً معركة الأرك (1195) ميلادية. كان متزوجاً وله ابنان، يشتغلان بالطب والعلوم، ولا يوجد في سيرته أي أخبار عاطفية، وإن كانت له آراء إيجابية في المرأة، فهو لا يشكك في ذكائها وحسن استعدادها، فلا يمتنع أن يكون لذلك بين النساء حكيمات أو صاحبات رياسة، أما بقاؤهن دون مواهبهن وقدراتهن في الأندلس وبقية البلاد الإسلامية، فلأنهن اتخذن للنسل من دون غيره، وللقيام بأزواجهن، وكذا للإنجاب والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلاً لأفعالهن الأخرى. ومما يذكره بنسالم حميش عن ابن رشد أنه كان ينفر من بعض الآلات الموسيقية، تتقدمها آلة الدف، وكذلك كان لديه نزوع إلى التحفظ على أغراض في الشعر العربي، إذ غالباً ما يصدر فيه أحكاماً قيمية أخلاقية، أيضاً هناك موقفه ضد التصوف، من دون تمييز، بسبب دعوى المتصوفة الاقتدار على تحقيق الاتصال بالعقل الفعال، بلا حاجة إلى درس وعلم، وهذا عنده خرافة ووهم. وبالرغم من تلك العوائق، كما يقول حميش: هناك لحظات ومحطات في منحنى حياة ابن رشد، قد تعوض عنها أو تهونها، بشرط إعمال منتج ذكي للافتراض التخييلي، كلما دعت إليه الضرورة والحاجة، ولعل مشروعية هذه الأعمال تقوم في ظاهرة ضياع كثير من كتابات ابن رشد، بعضها، وهو قليل، استرجعناه في غير لغته الأصلية، أي بواسطة ترجمات عبرية أو لاتينية، وبعضها ما زال في حكم الفقدان، ولا سبيل إلى تلمسه وتمثله إلا بالتكهن والافتراض والتخييل. الزمن الذي كان يعيش فيه ابن رشد هو زمن القرون الوسطى بامتياز، بالمعنى الديني والذهني، يراوده النزوع العقلي، وتخالطه مناهج الحكمة، كما يتبدى ذلك من مسائل كتابه تهافت التهافت رداً على تهافت الفلاسفة للغزالي، أو بصفة أخرى انضواؤه تحت لواء الخليفة أبي يعقوب يوسف، وتشجيعه على الخوض في شؤون وطرائق الفلسفة. ويراوح المكان الذي دارت فيه حياة ابن رشد بين قرطبة ومراكش وإشبيلية، أما الشخصيات التي تدور في فلكها أو العكس، فمن أبرزها ابن طفيل، وأبو مروان بن زهر، وإلى حد ما، ابن عربي، في لقائه الخاطف معه، كذلك أبو يعقوب وابنه المنصور الذي دفعه لتفسير أرسطو. وإذا توقفنا أمام نصب الفيلسوف بقرطبة ورسومه اللاتينية، فإنه يبدو لنا رجل قراءة بامتياز، وهذا يبرز محبة العمل التحصيلي والبحث عند أبي الوليد، وأخذه كتاب العالم عبر النص الأرسطي بقوة الشوق والعزم والتفاني، إذ لم يشغله عن هذا الكتاب شيء إلا يوم زواجه ويوم وفاة أبيه، ولم تكن معرفة ابن رشد بلغة واحدة، لغته العربية، لتثنيه عن الخوض في ما لم يصله إلا عبر الترجمة، فرأيناه في تلخيصاته وتفاسيره يستقبل مفاهيم أرسطية بعباراتها اليونانية، ومنها الهيولي (المادة القابلة لحمل الصور)، الأسطقسات (العناصر الأربعة: الماء والهواء والتراب والنار) ريطوريكا (الخطابة البلاغة) أوقيانوس (بحر المحيط)، ولا ريب في أنه في تلخيص كتاب السياسة الضائع قد استعار من اليونانية إلى العربية مفاهيم مثل ديمقراطية (حكم الشعب) أوتوقراطية (حكم الاستبداد). من يكتب سيرة ابن رشد عليه أن يملأ فراغات عدة، ومنها تحويل بعض المسائل والعقد الفلسفية الصعبة، إلى كائنات حية متحركة، كقدم أو حدوث العالم، ونظرية العقول، وفكرة وحدة العقل، حيث يركز ابن رشد على إرجاع مفهومي تراجيديا وكوميديا عند أرسطو في فن الشعر، إلى مفهومي المديح والهجاء عند العرب. وتفترض مسألة ضياع عدد كبير من كتب ابن رشد، أن حريقاً شب في بيته ما حدا به إلى إنقاذ الضروري منها، حتى إن البرهانية باتت عنده كغربال للتصفية والانتقاء، وفي ذلك ما يوحي بأن ابن رشد كان يعاني ويعيش اضطراب الوقت واهتزازه، ونهاية مرحلة وعهد. وأخيرا نصل إلى نكبة ابن رشد، وهي مدة قصيرة، نفي خلالها إلى قرية أليسانة اليهودية ببادية جنوب غرب قرطبة، وهذه النكبة لها أسبابها، منها أنه في تلخيصه لكتاب أرسطو الحيوان ذكر الزرافة ومشاهدته لها عند ملك البربر، فاغتاظ أبو يوسف يعقوب (المنصور) لذلك، ما اضطره إلى الاعتذار بكونه إنما قصد ملك البرين، كذلك هناك اتهام له بالشرك، من طرف فقهاء ووشاة، متحججين بنص من شروحه، يقول إن كوكب الزهرة أحد الآلهة، فنقلوا العبارة إلى الخليفة المنصور خارج سياقها، بقصد النيل من عقيدته، والمثير للدهشة أنه لما أُحضر أمام الخليفة بادر إلى إنكار خطه، فخرج على أسوأ حال، وحكي أنه طرد من مسجد قرطبة على أيدي سفلة من العامة. هناك رواية أخرى لكن بنسالم حميش يشكك في صحتها، وهي تعني تآمر ابن رشد مع أبي يحيى ضد أخيه (المنصور) أيام مرض الأخير، وهي رواية لا تستحق الوقوف عندها، نظراً لانصراف الفيلسوف عن الدسائس والانقلابات إلى ما هو أهم وأبقى: البحث الفلسفي والتأمل الفكري، وبالتالي فإنها من اختلاق الخصوم والمتربصين به.
مشاركة :