فرنسا تتحسب لمواجهة تمدّد الإخوان المسلمين | | صحيفة العرب

  • 7/14/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

استثمر تنظيم الإخوان المسلمين في أوروبا على مدى العقود السابقة خطاب المظلومية ومناخ الحريات والأنشطة الجمعياتية لتكوين بنية تنظيمية قوية خدمة لأجنداته السياسية، ما مكنه من إحكام قبضته على الجاليات العربية المسلمة وتوظيفها سياسيا واجتماعيا في بلدان الإقامة بدرجة أولى ثم بعد ذلك في بلدان المنشأ، ما دفع الدول المستضيفة لقيادات الجماعة إلى مراجعة علاقاتها بالتنظيم بعد أن انكشفت مناوراته الفكرية والأيديولوجية وباتت أجهزة استخباراتها تحذر من خطر مزيد توغله وتداعيات ذلك على السلم المجتمعية. وبدأت بلدان القارة العجوز في تحجيم دور التنظيم فعلا عبر محاصرة منتسبيه وخاصة مصادر تمويله المتخفية تحت عباءة الجمعيات والعمل الخيري، لكن هل هذه الإجراءات كافية لمواجهة تنظيم يتمتع بشبكة علاقات مالية ضخمة تقف خلفها موازنات دول أم أن قصور هذه المقاربة المعتمدة الآن يعزز التوجه نحو الاستئناس بالتجربة العربية في تفكيك التنظيم عبر تصنيفه منظمة إرهابية. باريس- استخدمت جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا الديمقراطية وقيم الحرية المقدسة في الغرب طريقا لتعزيز التيارات الأصولية داخله على مدى عقود من الزمن ما سمح لها بالتوغل داخل هاته المجتمعات لا فقط على الصعيد الاجتماعي بل حتى السياسي أيضا، حيث كان للدعم المالي واللوجستي الذي تتلقاه من الدول العربية الحاضنة لأجنداتهم الفضل الكبير في ذلك، لكن المصالح المشتركة بين التنظيم والدول الغربية عززت هذا التوغل. ومنذ خمسينات القرن الماضي كانت الدول الغربية تنظر إلى قيادات الإخوان المقيمين على أراضيها كأداة وظيفية للضغط على الأنظمة والشعوب العربية وبنت معها علاقة تعاقدية تم بموجبها توفير الحماية لهم ودعم أنشطتهم وتقديمهم على أنهم مضطهدون مقابل خدماتهم، لكن الأمور اليوم تغيرت بعد أن اكتشفت هذه الدول مناورات التنظيم الفكرية والأيديولوجية وسارعت إلى محاصرته عقب أن أصبحت القيم الغربية نفسها مهددة، ما فتح باب المواجهة معهم في عدة دول على غرار فرنسا وألمانيا وبشكل أقل حدة في بريطانيا الحاضنة الأم للتنظيم في أوروبا. واعتمد الإخوان بشكل كبير على “الاتحادات الإسلامية” في تمرير أجنداتهم، حيث كان لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا الذي تأسس في يونيو 1983، ويشرف كل سنة على الملتقى السنوي لمسلمي فرنسا وهو الأكبر من نوعه في أوروبا والذي ينظم في باريس دورا محوريا في ذلك. وفي هذا الإطار دعا تقرير صادر عن مجلس الشيوخ الفرنسي نشر الخميس الماضي إلى التحرك سريعا في مواجهة نزعة متصلبة تستلهم من الإسلام الأصولي وتشكك في قيم الجمهورية، محذرا من خطر بات يتهدد فرنسا على ضوء تنامي نشاط جماعات الإسلام السياسي يتقدمهم تنظيم الإخوان المسلمين وتليه جماعات سلفية تدعي أنها غير عنيفة وتحاول التأثير على المجتمع. وجاء في التقرير أن “مؤيدي الإسلام السياسي يسعون حاليا إلى السيطرة على الإسلام في فرنسا من أجل إنشاء الخلافة”، ويغذون في بعض المدن “نزعة انفصالية” خطيرة. ويشير التقرير إلى أن هذه النزعة “المتصلبة” المستلهمة من الإسلام الأصولي “تشكك في قيم الجمهورية”، في إشارة إلى حرية المعتقد، المساواة بين الرجل والمرأة والاختلاط. ووفق كاتبة النص السيناتورة جاكلين أوستاش-برينيو “فيجب التحرك سريعا” لأن “كل مناطق فرنسا صارت متأثرة اليوم، باستثناء غرب البلاد وإلا ففي غضون سنوات قليلة، قد تخرج بعض من هذه المناطق والأحياء من الجمهورية”. وفي فبراير الماضي، حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من “الحركات الانفصالية الإسلامية” وأعلن إجراءات ضد “التأثيرات الأجنبية” على الإسلام في فرنسا (تمويل المساجد والأئمة). ويبرز الجهاديون بين الجماعات المستهدفة في التقرير، وهم الجهة الرئيسة التي وقفت خلف سلسلة الهجمات التي أودت بحياة أكثر من 250 شخصا في فرنسا منذ العام 2015، لكن التقرير أبدى قلقا أيضا إزاء الحركات الإسلامية المتشددة التي تدعي أنها غير عنيفة ولاسيما السلفية منها (حوالي 40 ألفا في فرنسا) أو الإخوان المسلمون (50 ألفا). بناء على هذا التقرير أوصى مجلس الشيوخ الفرنسي بتعزيز شبكة الدولة للكشف عن السلوك أو الكلام “المنحرف” بشكل أكثر فعالية وتسهيل عملية إغلاق الأماكن أو الجمعيات التي تبث خطابات تمييزية أو تحض على الكراهية والعنف، إضافة إلى عدم تجديد الاتفاقات الموقعة مع دول أجنبية لتدريب الأئمة الذين يعتزمون الوعظ في فرنسا وتشديد الرقابة على المدارس غير المرتبطة باتفاقات مع الدولة وعلى ارتفاع عدد التلاميذ الذين يتلقون تعليمهم في المنزل. ويشكك مراقبون في فاعلية هذه التوصيات ومدى نجاعتها على المدى القصير والمتوسط في مواجهة أجندات التنظيم، كون المقاربات الزجرية تصطدم بلاءات القيم الديمقراطية التي توظفها جماعات الإسلام السياسي في استنهاض المكونات الحقوقية كلما شعرت بأن الخناق يضيق عليها. نجحت الجماعات السلفية والإخوانية في تفريغ بعض المجتمعات الأوروبية من هويتها عبر إحكام قبضتها على المساجد والمراكز الإسلامية، مستفيدة من القوانين التي تقوم على حماية الحريات بما في ذلك حرّية المعتقد، ما مكنها من بناء شبكة واسعة ومعقدة بعضها متورط في تجنيد وتسفير متشددين للقتال في بؤر التوتر مثل سوريا والعراق. ويقول أحمد المسلماني المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية السابق عدلي منصور إن “جماعة الإخوان المسلمين تسيطر على 720 مسجدا من إجمالي 2200 مسجد في فرنسا، علاوة على سيطرتها على اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا الذى يتجاوز عدد أعضائها 1000 منظمة”. للسيطرة على هذه المساجد والمراكز الإسلامية كان لابد من توفر حاضنة مالية قوية تتجاوز “تبرعات الأفراد” التي تروج هذه الجماعات لها كمصدر أساسي لتمويل أنشطتها. ومن هنا مثل الدعم المالي القطري والتركي مصدر قلق مزمن للسلطات في الغرب بعد أن حاد خطاب هذه التنظيمات عن الاعتدال والوسطية إلى خطاب مؤدلج ساهم في تعميق الهوة بين الشباب المسلم والدول التي يعيشون فيها، ما يهدد آليات التعايش المشترك. ويشير الباحثان كريستيان تشيسنو وجورج مالبرونو في كتاب “أوراق قطر وأسرار دعم مؤسسة قطر الخيرية لشبكات جماعة الإخوان في أوروبا” الصادر في 21 يناير 2020 إلى أن الهدف من دعم قطر للجماعات المتطرفة في أوروبا هو محاولة إنشاء مجتمع إخواني مواز للمجتمعات الأوروبية حتى تستطيع الجماعة السيطرة على أوروبا. كما أشار الكتاب إلى أن “العقيدة المتطرفة التي تبنتها الجماعة، تكرس فكرة استعادة الأراضي المفقودة في أوروبا واستيطان مناطق جديدة لتحقيق هدفها طويل الأجل المتمثل في إقامة خلافة جديدة” وهي الأيديولوجيا التي يروج لها زعيم التنظيم الدولي للإخوان المسلمين يوسف القرضاوي، المقيم في الدوحة. وأسست السيطرة على المساجد والمنابر الإسلامية المتخفية تحت عباءة الجمعيات ماليا وتنظيميا لبث الأيديولوجيات المتطرفة في أوساط الشباب المسلم والعمل على فصلهم عن المحيط الغربي الذي يعيشون فيه عبر إذكاء نعرات الهوية والخلافات الدينية حتى داخل المجموعات المسلمة نفسها. وحسب كتاب “المشروع: استراتيجية الإخوان للغزو والتسلل في فرنسا والعالم” ، فإن “جماعة الإخوان تدرك جيدا أن المسلمين لا يتعرضون للاضطهاد في الديمقراطيات الغربية، إلا أن استراتيجية الجماعة تتمثل في زرع التشتت داخل المجتمعات الإسلامية في الغرب، عن طريق تأكيد شعور الاضطهاد ما يؤدي بهذه الأقلية إلى التقوقع أو الانفصال عن المجتمع”، ما يدفعها إلى التعصُّب والعمل تدريجيا نحو محاولة أسلمة المجتمع من خلال التبشير بقيم متشددة، على حساب قيم التسامح والانفتاح. من جهته كشف مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، في تقرير جديد له حول المجتمع الموازي لجماعة الإخوان المسلمين في الغرب، نشر في 21 نوفمبر 2019 استراتيجية الجماعة في إنشاء مجتمعات موازية من خلال تحقيق قدر من التفاعل بين الجماعات الأخرى المشابهة لها فكريّا في أوروبا عبر إقامة شبكة دولية معقدة تترابط في ما بينها عبر شبكات مالية وأيديولوجية. ومن بين هذه الاستراتيجيات بث خطابات مزدوجة، حيث ترفع الجماعة شعارات تتغنى بالديمقراطية والتعايش السلمي بين أطياف المجتمع، بينما في الدول العربية والإسلامية تتحدث إلى المجتمع بخطابات متطرفة. ويقيم التنظيم شبكة من الروابط الاجتماعية من خلال الزواج بين عناصره وإقامة علاقات تجارية واقتصادية في ما بينهم للتكيف مع البيئة التي يعمل بها، إضافة إلى استقطاب المهاجرين الذين يحملون أيديولوجيته إلى هذه الدول متخذة شعار حمايتهم من الدخول في نسق الحياة الغربية المتعارض مع الحياة في الشرق. وأخيرا للتمويه على أجهزة الاستخبارات التي باتت متيقظة أكثر من أي وقت مضى تجاه مناورات التنظيم غيّرت الجماعة أساليب العضوية من الانتساب المباشر لها كشرط أساسي إلى مجرد الإيمان بالأفكار والأساليب والمنهج الخاص بها وذلك لإبعاد الشبهة عنهم واستعمالهم في مهام سرية دون جلب الانتباه. مقاربة زجرية أمام خطورة المشروع الإخواني على الديمقراطية والقيم الغربية التي تمثل مشتركا للتعايش داخل هذه المجتمعات، بدأت الحكومة الفرنسية في مراجعة شؤون إدارة المساجد على أراضيها في خطوة أولى اعتبرها مراقبون صحوة فرنسية وشكك آخرون في فوائدها في ظل لجوء الإخوان إلى الإنترنت ووسائل التواصل الحديثة لتأمين مواصلة بث أيديولوجيتهم، ما يعقد آليات تعقبهم. وفي 2010، وقعت كل من تركيا وفرنسا “إعلان نوايا” بخصوص وضع الموظفين الدينيين الأتراك، والذي تم بموجبه رفع عدد الموظفين من 121 إلى 151 موظفا، لكن باريس تراجعت في 2019 عن هذا الإعلان بتخفيض عدد الأئمة الأتراك بدل الترفيع في حصص انتدابهم. وكشف رئيس المجلس الإسلامي الفرنسي، أحمد أوغراش أن فرنسا لا ترغب في توظيف أئمة من تركيا في مساجدها وقال إن باريس تخفض من عدد الأئمة القادمين إليها من تركيا بمعدل 5 سنويا بدل الترفيع في نسبهم. ويقول خبراء فرنسيون إن قرار فرض قيود على إيفاد أئمة من دول أجنبية بهدف القضاء على خطر الانعزالية هو خطوة ضمن خطة تم إعدادها وتنفيذها منذ أكثر من عام لمحاصرة نشاط التنظيمات الدينية السياسية، وخاصة تنظيم الإخوان المسلمين الذي يعمل على التأثير في الحياة السياسية في فرنسا وأوروبا. وتشمل الخطة الفرنسية أيضا منع تجديد الإقامات لقيادات إخوانية إلا في حالات الزواج والولادة لطفل فرنسي، والدراسة والعلاج وفق ضوابط قانونية ولمدد واضحة، مع تشديد الرقابة على الأنشطة السياسية والدينية والعمل في حالة الممنوعين من العمل وفق ضوابط الإقامة. في ذات السياق، يقول يوهان سانيول الضابط السابق بجهاز الأمن الداخلي الفرنسي، إن التنظيم في فرنسا “تدخل بشكل سلبي في السياسة الفرنسية خلال العشرة أعوام الأخيرة، حيث دعم مرشحين في الانتخابات البلدية الماضية، ودفع رشاوى لتجديد إقامات واستقدام أشخاص من الخارج، وهذا أمر في غاية الخطورة”. وأمام أجندات التنظيم لتقويض الديمقراطية الفرنسية، أعلن ماكرون من ولاية ميلوز، وهي معقل التنظيم ومنطقة نفوذه، منع استقدام الأئمة والدعاة والمعلمين من الخارج. ويستقطب التنظيم العشرات من الأتباع من داخل المجتمع الفرنسي ومن بين المهاجرين الأجانب ويستغلهم في أنشطة سياسية تمس الدولة الفرنسية، مثل الانتخابات البلدية والبرلمانية وحتى الانتخابات الأوروبية، حيث يدفع التنظيم مرشحين فرنسيين ويوجههم لتولي المناصب والعمل في ما بعد وفق أجنداته، كما يستغل الإخوان الأئمة الذين يأتون من الخارج لاستقطاب الشباب، والكثير من هؤلاء الأئمة ينتمون إلى الإخوان في دولهم. نجحت الجماعات السلفية والإخوانية في تفريغ بعض المجتمعات الأوروبية من هويتها عبر إحكام قبضتها على المساجد والمراكز الإسلامية، مستفيدة من القوانين التي تقوم على حماية الحريات ويقول العضو السابق في إخوان المغرب محمد لويزي، الذي يعيش في فرنسا في كتابه “لهذه الأسباب غادرت الإخوان المسلمين”، الصادر بباريس العام 2016، إنّ “الإخوان يتّبعون أسلوب نسيج العنكبوت في نشر أيديولوجيتهم في أوروبا، وإنّه للقضاء على هذا العنكبوت لا بدّ من قطع رأسه”. ويقول لويزي “لا بدّ أن يستوعب الإخوان أنّ عملهم هو نوع من أنواع الجهاد العظيم في إزالة وهدم المدنية أو الحضارة الغربية من داخلها”، وهكذا “أصبح تنظيم الإخوان كنجمة البحر، كلما قطعت لها ذراعا تصبح الذراع الأخرى نجمة بحر مستقلة جديدة، وتبدأ أخرى في النمو، وهكذا دواليك في تكاثر مخيف ولا نهائي”. ومن هناك يتساءل مراقبون عن فاعلية المقاربات الزجرية والقانونية لمواجهة تنظيم أشبه بـ”الأخطبوط” تعي السلطات الفرنسية جيدا أنه يمثل خطرا على قيمها، لكن أسلحتها في مواجهته تبدو مألوفة ومن غير المتوقع أن تؤدي إلى النتائج المرجوة. فكلما ضيقت السلطات هامش المناورات القانونية للتنظيم إلا واستطاع التكيف سريعا مع المتغيرات واستنباط آليات أخرى للتخفي خلفها وهكذا دواليك. وأمام معركة الكرّ والفرّ بين السلطات الفرنسية والجماعة التي يبدو أن لا نهاية لها، تطفو إلى الواجهة المقاربة العربية في تفكيك التنظيم، فبدلا من مناورته وإطالة المعركة معه، يوفر تصنيفه تنظيما إرهابيا الوقت والجهد لتفكيكه وطي صفحته، طبعا إن تخلت باريس وسائر البلدان الأوروبية عن خدمات الجماعة ضمن استراتيجياتها في العالم العربي. وصنفت مصر، دولة النشأة الأم للإخوان المسلمين، الجماعة تنظيما إرهابيا عام 2013، بعد أحداث تفجير مديرية أمن الدقهلية، وحذت حذوها عديد الدول الوازنة في الشرق الأوسط على غرار دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية تباعا.

مشاركة :