تقوم عقيدتنا الإسلامية على العقل والتفكر والتدبر، وهو أمر متفق عليه بما هو مقرر في آيات كثيرة من القرآن؛ لكن البعض يظهر تناقضا مع ذلك في سلوكه مع العقل ومحاولة إعماله فيما يشكل من القضايا الملحة على الفكر الإنساني في الممارسة الثقافية، خاصة مع الانفجار المعرفي الجديد في العصر الراهن، وإني أتخذ عبدالله الغذامي في كتابه العقل المؤمن /العقل الملحد، وراشد العبد الكريم في مقاله «نظرات في كتاب الغذامي (العقل المؤمن والعقل الملحد)» نموذجا، بوصفهما يمثلان صورتين مختلفتين للتعامل مع مفهوم العقل والتدبر والتفكر في القضايا الوجودية الكبرى التي يحتاجها الباحث عن الحقيقة والمعنى. يخلص راشد العبد الكريم في مقاله إلى عدة نتائج منها أن الغذامي يهون من أمر الشك في الأسئلة الوجودية من قبيل هل للكون خالق؟ وما معنى وجودنا في هذه الحياة ؟ وما مصيرنا بعد الموت؟، ويرى أن الحل لهذه الأسئلة هو «استعظام الشك والخوف منه وعدم الركون إليه» والاستعاذة من الوساوس والعودة إلى الإيمان، مؤيدا كلامه بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع ذلك، معترضا على الغذامي في مناقشته للآراء والنظريات الفلسفية، وإن كان يقرّ بسلامة رؤيته إذ يقول: «وأنا على يقين أن المؤلف ما أراد بكتابه هذا إلا خيرا، وأنه أراد توجيه الشباب إلى الأخطاء المنهجية التي يقع فيها الملحدون». وإني هنا أتساءل هل يجدي استعظام الشك والخوف منه، والاستعاذة من الشيطان مع الجميع باختلاف مستوياتهم المعرفية، خاصة أولئك الذين وقفوا على النظريات الفلسفية التي ناقشت هذه القضايا؟ والذين أزعم أنهم الفئة التي ستفيد أكثر من غيرها من هذا الكتاب. ثم هل يمكن لأحد أن ينكر وجود الإلحاد بعد الإيمان؟ إن وجود هذه الظاهرة أمر لا يمكن تجاهله وعدم الحديث عنه إيثارا للسلامة، ولا بد في كل أمر تُقترح له الحلول، أن يُشخص واقعه الحقيقي، وتعرف أسبابه، ونقاط قوته، وضعفه؛ للانطلاق نحو اقتراح الحلول التي تناسبه، وتتفق مع مستواه في حدود لا تتعارض مع أصول العقيدة الدينية. إذا كان أغلب الذين لجؤوا إلى الإلحاد بعد الإيمان قد تعمقوا في النظريات الفلسفية، فهل يجدي معهم القول بالاستعاذة من الوساوس، وحصر الحل في ذلك كما يرى راشد العبد الكريم؛ لاعتقاده أن المسألة واحدة وجوابها واحد، وظنا منه أن المسألة لا زالت تُطرح في نفس الإطار القديم. الحق أن ذلك قد تغير، فأصبحت المسألة تطرح وفق أطر جديدة، وتصورات ونظريات علمية حديثة، لم تكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تشير في الواقع إلى تجربة جديدة، ومن ثم تتطلب جوابا مختلفا. إن محاولة الغذامي في كتابه نابعة من تصوره للواقع المعاصر، واطّلاعه على نماذج متعددة، لقد فهم الواقع، وشخّصه، وحدد أسبابه، واطّلع على نقاط القوة التي يُحتج بها، وهي النظريات الفلسفية الحديثة من قبيل نظرية الانفجار الكبير، والتطور، والجاذبية، كما حدد نقاط الضعف المتمثلة في عجز العقل البشري عن الإجابة علميا وفلسفيا عن نشوء الكون وما قبل الانفجار الكبير، التي استطاع أن يستثمرها لصالح الإيمان، فحاور الفلاسفة بما يناسب مستوى المتلقي الفكري، مستعرضا أهم النظريات الفلسفية التي ناقشت قضايا الإيمان والإلحاد بطريقة منهجية وعلمية، انتهت برؤية الكتاب إلى أن الإيمان لا يتعارض مع العلم، وأن الشك يقود إلى الإيمان، مستشهدا بتجربة النبي إبراهيم عليه السلام، واستجابة الله سبحانه وتعالى لأسئلته وشكوكه، وبث الطمأنينة في نفسه، وهذا ليس فيه تهوين من أمر الشك بقدر ما فيه اعتراف بالواقع، والتعامل معه وفق معطياته وظروفه. ومن هنا يصدر التساؤل هل يوجد في العقيدة والشريعة الإسلامية ما يمنع من مناقشة الناس على قدر عقولهم وزمانهم؛ لكي يعترض معترض بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بمناقشة النظريات الفلسفية؟ وهل هناك ما يمنع العقل المسلم من التفكر والتدبر ومساءلة النظريات الحديثة؟ إن هذا الاعتراض يجعل من العقل عقلا محاصرا، لا يتمكن من مناظرة العلم الحديث حسب مسلماته، وإذا كان هناك طموح نحو الإصلاح والتجديد، فإنه لا بد من الخضوع بالضرورة لمنطق المبادرة والإقدام، والانطلاق من قضايا ملموسة وواقعية، ما دام هذا لا يتعارض مع العقيدة؛ بل يعد محاولة ناجعة في محاورة القضايا الوجودية بطريقة لا ينكرها الدين، بل يدعو إليها، يقول تعالى «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة»، ويرى السعدي أن الحكمة هنا تعني الدعوة بالعلم لا بالجهل، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم. وختاما فإن كتاب العقل المؤمن /العقل الملحد للغذامي يمثل نموذجا من نماذج حل المشكلات المطروحة، بمنهجية علمية موضوعية، تسائل النظرية الغربية الحديثة، ولا تسلّم بكافة حدودها، وفي المقابل يعد الاعتراض عليه ناتجا من عدم الاعتياد على قبول التجديد الحقيقي، والوثوق به، بل والتوجس منه، وحالما يتحرر العقل من هذه القيود سيتمكن من الرؤية بطريقة مغايرة، تلك التي تبني ولا تهدم، تضيء الدرب ولا تترك مجالا للعتمة.
مشاركة :